الفرنسية تغتال أمننا اللغوي وتماسكنا الاجتماعي
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
الفرنسية تغتال أمننا اللغوي وتماسكنا الاجتماعي
المذكرة الوزارية التي تنبئ بعودة الفرنسية بقوة إلى مدارسنا ومنظومتنا التربوية ليست مجرد مذكرة ضمن رؤية إصلاحية لقطاع التعليم، بل هي انعكاس للعطالة الفكرية التي يفرضها المسؤولون كلما تململنا ذات محاولة إصلاحية، فلا يكلفون أنفسهم الجهد اللازم لتجاوز الاختلالات عبر حلول وطنية تُؤَمن استقلالنا القومي والتربوي والثقافي، بل يسارعون للغوص أكثر في أحضان لغة رصيدها العالمي في تراجع مستمر. وقد كنت كتبت مقالا في موضوع الأمن اللغوي قبل سنوات عدة، ويبدو أن أفكاره لم يطلها التقادم رغم اختلاف الزمان وتعاقب الحكومات. لذلك أرى في إعادة نشره تأكيدا على ألا شيء تغير في مغرب اليوم، خاصة أمام التجاهل الكلي للحكومة أمام هذه المذكرة الوزارية التي من الواضح أن القرار الذي تتضمنه يتجاوزها، لكن من أصدره؟ إليكم المقال.
تعتبر اللغة من أهم المعالم المحددة لهوية دولة ما، فهي رَمزٌ تُختزل فيه الخطوط التاريخية والجغرافية للثقافة القومية، ومنطلق مركزي لتحليل وفهم الصيرورة الحضارية للمجتمع في راهنيته وجذوره الأكثر عمقا. وإذا كان الدستور المغربي ينص على رسمية اللغة العربية، فإن ذلك لم يكن كافيا لتمتيعها بالوضع الاعتباري الذي يجعلها رمزا للمواطنة والانتماء الحضاري، بما يحقق الاستقلال اللغوي كأساس من أسس الاعتراف بالذات واحترامها.
لقد شكل التعريب، إبان الاستعمار الفرنسي، أحد مطالب الاستقلال السياسي، بل دعامته الأساسية التي تجسدت في خطابات النخبة، مرتكزة على وعي يعكس رغبة القواعد الشعبية المقاوِمَة، فكان شعار الاستقلال اللغوي يمثل على الصعيد التعبوي طاقة محركة قوية، لكن السلطة التي باشرت الحكم فجر "الاستقلال" أخطأت الموعد، إذ اصطدم مطلب التعريب بمقاومة صماء خفية نافذة ومتمكنة صعبت التخلص من اللغة الفرنسية، مما أنتج وضعا يتسم بالازدواجية اللغوية في الإدارة والاقتصاد والشارع وحتى في النظام التعليمي.
ومع مرور السنوات، بدأ الوضع يُبَرَّر بقصور اللغة العربية عن استيعاب تطورات العصر، وبأن التقدم الاقتصادي يتوقف على إدخال البلاد في مجال التبادلات الدولية التي لا تتحقق إلا بلغة موليير، ثم انتشرت عبارات الانفتاح والحوار والتواصل وغيرها من المبررات التي كان الأساس منها خلق تطبيع مع ازدواجية لغوية تلعب فيها اللغة الفرنسية دور القائد المتبوع. والحقيقة أن كل تلك الدفوعات تفقد قوتها وتتكسر على حائط تجارب دول لا تملك لغتها القومية ربع ما للعربية من مميزات وانتشار، ومع ذلك استطاعت أن تحقق نموا اقتصاديا هائلا، وتتحاور وتتواصل وتنفتح دون عوائق، ولنا في التركية والماليزية والإندونيسية المثال الكافي. وأمام هشاشة الأسس التي تبرر بها الازدواجية اللغوية، فمن الضروري التساؤل حول الدور الحقيقي الذي تلعبه اللغة الفرنسية في بلادنا.
من الناحية الثقافية، كان يفترض في نشر اللغة العربية بدل الفرنسية أن يتم امتصاص آثار الاغتصاب الحضاري الذي قام به المستعمر، لكن عمليات التعريب الجزئية التي عرفها المغرب لم تكن سوى ترجمة لفظية للثقافة الفرنسية بذريعة عالمية الثقافة ووحدة أنماط الإنتاج والاستهلاك، وأصبحت اللغة العربية تلعب وسيطا ثقافيا خاليا من أي حمولة حضارية أصيلة، ما جعلها مجرد وسيلة تؤدي مهمة الفرنسية ضمن مشروع تأطيري للمجتمع، قائم على تثبيت هوية لقيطة وهجينة.
أما التحليل السوسيولوجي فيزيد الوضعية وضوحا؛ حيث تدير اللغة الفرنسية في صمت الصراعات الإيديولوجية والتوترات الطبقية والتنافس بين الفئات الاجتماعية، بعد أن أمسكت بدواليب إنتاج النخبة في بلادنا. فالاستعمال شبه الحصري للغة الفرنسية في التعليم العلمي والتقني وقطاع الحياة الاقتصادية والإدارة جعل منها لغة للانتقاء والنجاح الاجتماعيين، تُسَهِّلُ الحصول على الشغل وتكون فيصلا في التنافس على المناصب والوظائف، فهي بذلك الرهان الذي يحسم الترقي الاجتماعي للفئات الدنيا والمتوسطة، وهي المنفذ الذي يُسَهِّل وصول الفئات العليا إلى مصادر القرار، ابتداء بمستوى المقاولات والإدارات البسيطة وانتهاء بالشركات والمؤسسات الكبرى.
وتلعب منظومة التربية والتعليم الدور الأكبر من أجل تكريس هذا التحكم الخفي للغة الفرنسية في تغيير مسار ثقافتنا وتوجيه دينامكيتنا الاجتماعية، ويبدأ ذلك عندما تعطى للغة غير وطنية غلافا زمنيا كبيرا جدا يبدأ منذ السنة الثانية ابتدائي ويتزايد حجمه مع تعاقب السنوات الدراسية، ليتجاوز الزمن المخصص للغة العربية في بعض الشعب بالتعليم الثانوي، يضاف إلى ذلك المعامل المخصص لهذه المادة والذي يتحكم بشكل كبير في رفع أو خفض معدلات التلاميذ، وهو ما يترتب عنه تصنيفهم وترتيبهم. فضلا عن أن مناهج تدريس اللغة الفرنسية تعطيها دورا أكبر من كونها مجرد لغة وظيفية الهدف من تدريسها هو الانفتاح والتواصل وغيرها من التبريرات التي يسوقها دعاة الازدواجية، فيتم حمل التلاميذ على الغوص في العمق السيميائي لهذه اللغة في زمن متقدم من عمرهم الدراسي، مع ما يحمل ذلك من روح للثقافة الفرنسية التي لا تشكل لغتها إلا وعاء حاملا لها، دون مراعاة لأسس ومناهج تدريس اللغة الثانية كما هو متعارف عليها عالميا.
ولعل ذلك ما أنتج هذا الضعف المهول لطلبتنا الذين لا يستطيعون التواصل باللغة الفرنسية بعد أن يقضوا أكثر من عشر سنوات في تعلمها، في حين نجد غيرهم ممن يخضعون لمناهج وظيفية يمتلكون قدرات أفضل في زمن قياسي.
إن اللغة الفرنسية في المغرب أكبر من مجرد لغة للتواصل والانفتاح على عوالم الحضارة والعلوم والاقتصاد، إنها تملك القوة والإمكانيات التي تمكنها من التحكم في حركية مجتمعنا من خلال ازدواجية الإقصاء والانتقاء، وهي الوظيفة التي يفترض أن تؤديها اللغة الرسمية بما هي لغة الانتماء للوطن والوفاء لجذوره والدفاع عن هويته. إن امتلاك اللغة الفرنسية لهذه الإمكانيات على أرض بلادنا يهدد أمننا اللغوي.
تعتبر اللغة من أهم المعالم المحددة لهوية دولة ما، فهي رَمزٌ تُختزل فيه الخطوط التاريخية والجغرافية للثقافة القومية، ومنطلق مركزي لتحليل وفهم الصيرورة الحضارية للمجتمع في راهنيته وجذوره الأكثر عمقا. وإذا كان الدستور المغربي ينص على رسمية اللغة العربية، فإن ذلك لم يكن كافيا لتمتيعها بالوضع الاعتباري الذي يجعلها رمزا للمواطنة والانتماء الحضاري، بما يحقق الاستقلال اللغوي كأساس من أسس الاعتراف بالذات واحترامها.
لقد شكل التعريب، إبان الاستعمار الفرنسي، أحد مطالب الاستقلال السياسي، بل دعامته الأساسية التي تجسدت في خطابات النخبة، مرتكزة على وعي يعكس رغبة القواعد الشعبية المقاوِمَة، فكان شعار الاستقلال اللغوي يمثل على الصعيد التعبوي طاقة محركة قوية، لكن السلطة التي باشرت الحكم فجر "الاستقلال" أخطأت الموعد، إذ اصطدم مطلب التعريب بمقاومة صماء خفية نافذة ومتمكنة صعبت التخلص من اللغة الفرنسية، مما أنتج وضعا يتسم بالازدواجية اللغوية في الإدارة والاقتصاد والشارع وحتى في النظام التعليمي.
ومع مرور السنوات، بدأ الوضع يُبَرَّر بقصور اللغة العربية عن استيعاب تطورات العصر، وبأن التقدم الاقتصادي يتوقف على إدخال البلاد في مجال التبادلات الدولية التي لا تتحقق إلا بلغة موليير، ثم انتشرت عبارات الانفتاح والحوار والتواصل وغيرها من المبررات التي كان الأساس منها خلق تطبيع مع ازدواجية لغوية تلعب فيها اللغة الفرنسية دور القائد المتبوع. والحقيقة أن كل تلك الدفوعات تفقد قوتها وتتكسر على حائط تجارب دول لا تملك لغتها القومية ربع ما للعربية من مميزات وانتشار، ومع ذلك استطاعت أن تحقق نموا اقتصاديا هائلا، وتتحاور وتتواصل وتنفتح دون عوائق، ولنا في التركية والماليزية والإندونيسية المثال الكافي. وأمام هشاشة الأسس التي تبرر بها الازدواجية اللغوية، فمن الضروري التساؤل حول الدور الحقيقي الذي تلعبه اللغة الفرنسية في بلادنا.
من الناحية الثقافية، كان يفترض في نشر اللغة العربية بدل الفرنسية أن يتم امتصاص آثار الاغتصاب الحضاري الذي قام به المستعمر، لكن عمليات التعريب الجزئية التي عرفها المغرب لم تكن سوى ترجمة لفظية للثقافة الفرنسية بذريعة عالمية الثقافة ووحدة أنماط الإنتاج والاستهلاك، وأصبحت اللغة العربية تلعب وسيطا ثقافيا خاليا من أي حمولة حضارية أصيلة، ما جعلها مجرد وسيلة تؤدي مهمة الفرنسية ضمن مشروع تأطيري للمجتمع، قائم على تثبيت هوية لقيطة وهجينة.
أما التحليل السوسيولوجي فيزيد الوضعية وضوحا؛ حيث تدير اللغة الفرنسية في صمت الصراعات الإيديولوجية والتوترات الطبقية والتنافس بين الفئات الاجتماعية، بعد أن أمسكت بدواليب إنتاج النخبة في بلادنا. فالاستعمال شبه الحصري للغة الفرنسية في التعليم العلمي والتقني وقطاع الحياة الاقتصادية والإدارة جعل منها لغة للانتقاء والنجاح الاجتماعيين، تُسَهِّلُ الحصول على الشغل وتكون فيصلا في التنافس على المناصب والوظائف، فهي بذلك الرهان الذي يحسم الترقي الاجتماعي للفئات الدنيا والمتوسطة، وهي المنفذ الذي يُسَهِّل وصول الفئات العليا إلى مصادر القرار، ابتداء بمستوى المقاولات والإدارات البسيطة وانتهاء بالشركات والمؤسسات الكبرى.
وتلعب منظومة التربية والتعليم الدور الأكبر من أجل تكريس هذا التحكم الخفي للغة الفرنسية في تغيير مسار ثقافتنا وتوجيه دينامكيتنا الاجتماعية، ويبدأ ذلك عندما تعطى للغة غير وطنية غلافا زمنيا كبيرا جدا يبدأ منذ السنة الثانية ابتدائي ويتزايد حجمه مع تعاقب السنوات الدراسية، ليتجاوز الزمن المخصص للغة العربية في بعض الشعب بالتعليم الثانوي، يضاف إلى ذلك المعامل المخصص لهذه المادة والذي يتحكم بشكل كبير في رفع أو خفض معدلات التلاميذ، وهو ما يترتب عنه تصنيفهم وترتيبهم. فضلا عن أن مناهج تدريس اللغة الفرنسية تعطيها دورا أكبر من كونها مجرد لغة وظيفية الهدف من تدريسها هو الانفتاح والتواصل وغيرها من التبريرات التي يسوقها دعاة الازدواجية، فيتم حمل التلاميذ على الغوص في العمق السيميائي لهذه اللغة في زمن متقدم من عمرهم الدراسي، مع ما يحمل ذلك من روح للثقافة الفرنسية التي لا تشكل لغتها إلا وعاء حاملا لها، دون مراعاة لأسس ومناهج تدريس اللغة الثانية كما هو متعارف عليها عالميا.
ولعل ذلك ما أنتج هذا الضعف المهول لطلبتنا الذين لا يستطيعون التواصل باللغة الفرنسية بعد أن يقضوا أكثر من عشر سنوات في تعلمها، في حين نجد غيرهم ممن يخضعون لمناهج وظيفية يمتلكون قدرات أفضل في زمن قياسي.
إن اللغة الفرنسية في المغرب أكبر من مجرد لغة للتواصل والانفتاح على عوالم الحضارة والعلوم والاقتصاد، إنها تملك القوة والإمكانيات التي تمكنها من التحكم في حركية مجتمعنا من خلال ازدواجية الإقصاء والانتقاء، وهي الوظيفة التي يفترض أن تؤديها اللغة الرسمية بما هي لغة الانتماء للوطن والوفاء لجذوره والدفاع عن هويته. إن امتلاك اللغة الفرنسية لهذه الإمكانيات على أرض بلادنا يهدد أمننا اللغوي.
الطائر المبكر- عضو جديد
- تاريخ التسجيل : 07/09/2018المساهمات : 196نقاط التميز : 584الجنس :العمر : 34الأبراج :
رد: الفرنسية تغتال أمننا اللغوي وتماسكنا الاجتماعي
شكرا جزيلا على المتابعة
بارك الله فيك
بارك الله فيك
MED - BOX HD- مدير ستار ديس
- تاريخ التسجيل : 20/08/2018المساهمات : 1156نقاط التميز : 1969
مواضيع مماثلة
» منصة DISNEY+ ستطلق في السوق الفرنسية حتى 7 أبريل بطلب الحكومة الفرنسية
» تعلم اللغة الفرنسية للأطفال و المبتدئين : تطبيق اللغة الفرنسية للأطفال و المبتدئين التحدث بالفرنسية
» ترجمة شيخنا العلامة اللغوي محمد بن عبد المعطي.
» الفرق بين الخطأ الإملائي والخطأ النحوي والخطأ اللغوي
» الأمن الاجتماعي ومدلولاته الشرعية
» تعلم اللغة الفرنسية للأطفال و المبتدئين : تطبيق اللغة الفرنسية للأطفال و المبتدئين التحدث بالفرنسية
» ترجمة شيخنا العلامة اللغوي محمد بن عبد المعطي.
» الفرق بين الخطأ الإملائي والخطأ النحوي والخطأ اللغوي
» الأمن الاجتماعي ومدلولاته الشرعية
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى