تأملات في سورة عبس
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
تأملات في سورة عبس
{{ تأملات في سورة عبس }}
((للأمانة..الكاتب: رياض محمد المسيميري))
مكية بالإجماع
سبب النزول:
قال ابن الجوزي: قال المفسرون[1] كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأمية، وأبيّ بن خلف، ويدعوهم إلى الله - تعالى -، ويرجو إسلامهم، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى؛ فقال: علمّني يا رسول الله ممّا علّمك الله، وجعل يناديه، ويكرر النداء، ولا يدري أنّه مشتغل بكلام غيره، حتى ظهرت الكراهية في وجهه لقطعه كلامه؛ فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقبل على القوم يكلمهم، فنزلت هذه الآيات فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكرمه بعد ذلك، ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ".
قال - تعالى -: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى* وَهُوَ يَخْشَى* فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى* كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ)).
شرح الغريب:
(عَبَسَ): أي قطّب جبينه: والعابس هنا: هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
(وَتَوَلَّى): أعرض، أي أعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأعمى، واشتغل بدعوة صناديق قريش.
(يَزَّكَّى): أي: يتطهر من الذنوب، ويتزود من الباقيات الصالحات.
(اسْتَغْنَى): أي استكثر بماله عن الإيمان بربه.
(تَصَدَّى): تقبل عليه بوجهك طامعاً في إيمانه.
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ): أي هذه العظة، وهذه السورة تذكرة.
(فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ): الصحف هي: الكتب، والمراد بها إما:
1- اللوح المحفوظ. 2- أو كتب الأنبياء السابقة، والراجح الأول.
(مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ): أي: مرفوعة مكاناً ومكانةً، مطهرة من كلّ دنس ورجس، ومن كل زيادة ونقص.
(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ): أي، الملائكة، والسفرة: هم الكتبة، وقيل: الملائكة السفراء بين الله ورسله بالوحي.
(كِرَامٍ بَرَرَةٍ): أي مكرمون عند ربهم، وكرام عليه - سبحانه -، والبررة: المطيعون، جمع بار، قال الفرّاء: واحد " البررة " في قياس العربية: بارٌ؛ لأنَ العرب لا تقول: فَعَلَة ينوون به الجمع إلا والواحد منه: فاعل، مثل: كافر وكفرة، وفاجر وفجرة، قال ابن كثير: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ): أي خُلقهم كريم، حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارّة طاهرة كاملة، ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
هداية الآيات:
في أول كلمة من هذه السورة الشريفة، يسجل القرآن الكريم بكلّ دقة، ويُصوّر بكلّ وضوح، موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاه الأعمى القادم إليه طالباً للعلم، وساعياً يبتغي الفائدة.
فيُظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عابس الجبين في وجه ابن أم مكتوم الأعمى الضرير، ويظل الموقف المُسجّل بدقة قرآناً يتلى إلى يوم القيامة ليدرك حملة الرسالات، وأرباب الدعوات، وأهل العلم أنّ وظيفتهم لا تتجاوز حدود تبليغ رسالات الله إلى العالمين، مع إعطاء الجميع فرصاً متساوية في تلقي شريعة الله، لا فرق بين كبير وصغير، وسيد ومملوك!.
وأن أولئك الكبراء والسادة، وعليةّ القوم، ورؤسائهم أحوج إلى نور الإسلام، وشريعة الرحمن من غيرهم وأن الإسلام ليس بحاجة إليهم ولا إلى غيرهم!.
لقد عبس نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في وجه الأعمى، وما كان له أن يعبس وأعرض عنه، وما كان له أن يعرض، لأنّ حاجة الأعمى للإسلام وللفقة في شريعة الله لا تقل عن حاجة أبي جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما من سادة المشركين، فالكل محتاجون إلى الهداية والاستنارة بهدي القرآن والسُنّة سواء بسواء!.
وقد ذكر الله - تعالى -لنبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن الاهتمام بشأن الأعمى ربما كان سبب زكاة نفسه وصلاحها، وانتفاعها بالذكرى وفلاحها، وهو سبب وجيه لا يجوز إهماله.
ثم ذكر - سبحانه -: ((أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى)) فليس ثمة فائدة من في الحرص الشديد على إسلامه، وهدايته، لأنّه هو الخاسر الأوحد حين تفوته مصلحة الإسلام والهداية فلا داعي لحرمان الساعين إلى الهداية، المقبلين عليها لحساب المعاندين والمستغنين!.
(وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى* وَهُوَ يَخْشَى* فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) وهي عبارة أعيدت بصيغة أخرى للتأكيد على ما سبق وأنّ الساعي إلى الهداية خشية لربه ورغبة في تزكية نفسه وإنقاذها من الضلال أحق بالاهتمام وأجدر بالتعليم والدعوة.
((كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ)) أي هذه الموعظة البليغة أو هذه الآيات المنزلة فيها تذكرة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولورثته في حمل الشريعة وتبليغ الرسالة، بأن لا يحابوا أحداً ولا يجاملوه مهما بلغ شأنه، وعلا جاهه وألا يحرموا أحداً من العلم والدعوة مهما صغر شأنه وقلّ قدره!.
وهذه الموعظة البليغة، والآيات الكريمة مدونة في: ((فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ)) أي في اللوح المحفوظ عالية القدر رفيعة المنزل والمنزلة، وهي كذلك بأيدي ملائكة مكرمين يسعون بها بين الله ورسله فلا تمسها يدٌ عابثة ولا يقربها شيطان مسترق للسمع ومن ثمّ فهي تصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيضاء نقية، طاهرة مرضية، فلله الحمد والمنة.
قوله - تعالى -: ((قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)).
شرح الغريب:
(قُتِلَ الْإِنسَانُ): أي لُعن والمراد بالإنسان: الإنسان المكذب الكافر الجاحد.
(مَا أَكْفَرَهُ): أي ما أشد كفره! ويحتمل المعنى: ما الذي جعله يكفر؟ فالأولى تعجبية، والثانية استفهامية.
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ): أي من أي عنصر ومادة خلق الله الإنسان؟
(مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ): أجاب الله - تعالى - بنفسه عن السؤال السابق، وبيّن أنّه خلق الإنسان من نطفة، فقدر أجله ورزقه وعمله وشقيا أو سعيدا.
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ): قيل: يسّر له الخروج من بطن أمه، وقيل: بيّن له طريق الحق وطريق الباطل، وكلا القولين حق.
(ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ): أي إذا شاء الله بعثه وخرج من قبره لأرض المحشر، يوم البعث والنشور!.
(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ): قال ابن كثر: كلا لما يقض ما أمره: معناه لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم!.
هدايةُ الآيات:
يمقتُ اللهُ - تعالى -، ويلعنُ كلّ كافر مكذب، جاحد للبعث والنشور، ويعجب من حاله وتكذيبه واستبعاده للبعث وهو المخلوق أساساً من نطفة مهينة حقيرة، فقدّر أجله ورزقه وعمله وشقاوته وسعادته، وهو الذي قد كان في بطن أمه ضعيفاً أسيراً لا يملك من أمره شيئاً..ثم أخرجه إلى دنياه الواسعة وأبقاه لأجل مضروب، وزمن محدود..ثم إذا حان أجله وُسِّد قبره، ليبقى رهين التراب والدود حتى قيام الساعة، ويأذن الله له ولسائر الخلائق بالخروج حيث الوقوف بين يدي الملك الديان!.
فيا لحقارة الكافر، ويا لجرءته على ربه، ويا لسوء ظنه بالخلّاق العظيم، والقهار ذي القوة المتين! فما باله يستعظم ويستبعد إعادته إلى الحياة وهو المخلوق من العدم؟!
ثم أين عقلُ هذا المغفل المغرور عن تلك السموات العاليات والأراضين الواسعات، والجبال الشاهقات، أفيكون خلقه أعسر على الله من هاتيك المخلوقات العجيبات؟!
ومن هداية الآيات الإشارة إلى قضية التقدير التي فصّلها ابن مسعود في حديثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- المتفق عليه، فعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعـود -رضي الله عنه-، قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: ((إن أحـدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مـضغـة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويـؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد؛ فوالله الـذي لا إلــه غـيره إن أحــدكم ليعـمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعـمل بعـمل أهــل النار فـيـدخـلها.
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فــيسـبـق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) رواه البخاري [رقم: 3208] ومسلم [رقم: 2643].
وهذا التقدير لا ينبغي أن يحول بين الإنسان والعمل إذ كلٌّ ميسرٌ لما خُلقَ له كما صح عنه عليه -صلى الله عليه وسلم- في غير حديث.
((ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)): وللسلف في الآية معنيان:
أحدهما: أي سهّلنا خروجه من بطن أمه.
ثانيهما: أي بيّنا له طريق الحق والباطل، والخير والشر.
وكلا المعنيين صالح لتفسير الآية، فإنّ الله - تعالى - يسّر على الحامل وضع جنينها، وسهل خروجه من رحمها برحمته ومنته، وفضله وكرمه.. ولولا تيسير الله لاستحال خروجه، وبقي عبئاً ثقيلاً في بطنها فما أعظم منة الله على نساء العالمين!.
كما أنّ التيسير المذكور قد يكون بمعنى تبيين طريق الحق والباطل، وطريق الخير والشر، وهو نعمة أجل من سابقتها وكرم من الله وفضل لولاه لبقي كل أحد متخبط في دياجير الضلالة والظلام، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
بيد أنّ الأكثرين استخفوا بهذه النعمة، وجحدوا فضلها وأهميتها فتنكروا لها فإذا بهم ضُلّالاً حائرين وفي أودية الكفر والفجور تائهين وغارقين.
((ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)): وهي آية تنطق بالمصير المحتوم الذي يؤول إليه كل مخلوق حي فما الحياة الدنيا إلا فترة قصيرة، ورحلة عابرة يهجم بعدها الموت فيضع حدّاً سريعاً وحاسماً لحياة الإنسان، لينتقل إلى قبره الموحش المظلم وحيداً فريداً فإما عمل صالح يأنس به ويزيل وحشته وينير قبره، وإما عمل سيء يزيده رهقاً ويكبله عناءً وشقاءً!.
((ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ)) فيظل الإنسان مقبوراً مأسوراً في حفرته أجلاً لا يعلم مداه إلا الله، حتى إذا أذن الله للقيامة أن تقوم، وللخلائق أن تقف بين يديه، نفخ الملك الموكل بالصور في بوقه!.
((فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ)) وهي نفخة عظيمة، دالة على عظمة قدرة الله حيث أعاد الأرواح إلى أجسادها وبعث الجميع بلا نقص ولا فوت: ((لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً)) (مريم: 94).
وفي الآية دلالة بأنّ الله - تعالى- قد حَجَبَ علم الساعة عن الخلائق كلهم فلا يحيط بعلمها ملكٌ مقربٌ، ولا نبيٌ مرسلٌ: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)) الأعراف: 187.
((كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)) وهذه الآية تشيرُ إلى أنّ الله تعالى- قد قضى في سابق علمه وقدره أنه سيوجِدُ خلائقَ وأمماً متتابعة من الناس، وأنه لن يكون ثَمة بعث إلا بعد أن يمضي قضاؤه في إيجادهم وخلقهم، ويستوفي لهم آجالهم وأعمارهم حتى إذا تحقق أمره، وتم مراده جرت مقادير الله بزوال الدنيا وقدوم الآخرة، بأهوالها وأحداثها العظام!.
((فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)).
شرح الغريب:
(أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً): أي أنزلناه من السحاب.
(شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً): أي تفتقت الأرض بخروج النبات.
(وَقَضْباً): هو طعام نابت من الأرض تأكله الدواب يقال له: القَت، وقيل: العلف.
(وَحَدَائِقَ غُلْباً): أي بساتين ذوات أشجار طويلة وغليظة.
(وَأَبّاً): قيل طعام آخر نابت في الأرض تأكله الدواب كالعشب ونحوه.
(مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ): أي هذه الزروع والنباتات الخارجة من شقوق الأرض إنما هي بمثابة المتاع الدنيوي لبني الإنسان وما تحت أيديهم من البهائم.
هداية الآيات:
لعلّ مناسبة هذه الآيات لسابقتها ظاهر بجلاء فإنّ العلاقة وثيقة بين قضية البعث، وإحياء الأرض الموات بالمطر، وكثيراً ما يمثل القرآن الكريم للبعث بإنزال المطر وإحياء الأرض لما بينهما من التماثل العظيم والتشابه الوطيد.
ولو تأمل الجاحدون للبعث والنشور هذه التشابه الدقيق لما تحيروا في إمكانية إعادة الخلائق، وبعث الأموات فما ذلك على الله بعزيز.
((فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه)) أي فليتأمل الإنسان بتدبر وتعقل غذاءه الذي يتغذي به، من خلقه؟ وكيف خلقه؟
وحقيقة الأمر أنّ الله أمر السحاب فحملت الماء، ثم أمرها ثانية فصبّت ماءها في تضاعيف الأرض؛ فتشققت حدائق غناء، ودوحات فيحاء؛ فإذا بالحبوب تملأ أركانها وعروش العنب تزين أطرافها.
وإذا بأشجار الزيتون أنواعاً وألواناً، وإذا بالنخيل الباسقات تشدو بأعذب الألحان، وتلهج بأجمل التسبيح بحمد الخالق المدبر!.
وإذا بالفواكه اللذيذات بُرتقالاً وتُفاحاً، ورُماناً وتيناً قد صبغت البساتين بألوان متنوعات، وصور زاهيات ناطقة بعظمة اللطيف الخبير.
وهي رغم ذلك مجرد متاع مؤقت إلى أجل قريب تعود بعدها الجنات اليافعات، والبساتين اليانعات بلاقع يابسات، وهشيماً غابرات!.
قال القرطبي: وهذا ضرب مثل ضربه الله -تعالى- لبعث الموتى من قبورهم كنبات الزرع بعد دثوره!
(فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ *وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ).
شرح الغريب:
(الصَّاخَّة): اسمٌ من أسماء القيامة، وقيل: هي صيحة القيامة سُمِّيت بذلك؛ لأنها تضخُّ الأسماع، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصّمها.
(وَصَاحِبَتِهِ): زوجته.
(مُّسْفِرَةٌ): مستنيرة ومشرقة.
(غَبَرَةٌ): أي: غبار يعلو الوجوه.
(تَرْهَقُهَا): تغشاها وتعلوها.
(قَتَرَةٌ): أي: سواد، وقيل: دخان، وقيل: ظلمة، وكل هذه الأقوال حق وصدق.
(الْفَجَرَةُ): جمع فاجر، وهو الفاسق.
هداية الآيات:
في هذه الآيات الكريمات يُصوّر القرآن الكريم حالة الذهول والهلع التي تصيب الناس حال النفخ في الصور وقيام الساعة، فيفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وزوجته وبنيه لانشغال كلّ منهم بنفسه عن غيره وسعيه للخلاص من هول الموقف وكرب الحشر، فلا أخ يلتفت لأخيه، ولا ولد يفكر بأمه وأبيه، ولا زوج يراعي زوجته أو أبناءه فرحماك يا إلهي!.
فهل تفكر في هول تلك الساعات، وشدة هاتيك اللحظات من أسرفوا على أنفسهم، وأكبوا على المعاصي والذنوب واستكثروا من الفواحش والآثام، وظلموا البلاد والعباد؟!
فوائد السورة:
1-أنّ الله - تعالى - لا يُحابي أحداً على حساب الحق حتى لو كان أحب عباده إليه، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- فحين عبس في وجه الأعمى عاتبه الله، وأرشده إلى الصواب.
فلا ينبغي بعد هذا أن يغتر أحد بعلمه أو جاهه فيخالف الحق ويقتحم الباطل، أو يتقدم بين يدي الله ورسوله؛ فإنّ الله مطلع عليه عالم به.
2- وجوب العدل في معاملة الخلق لاسيما في حقوقهم الدعوية وإتاحة الفرصة لهم في العلم وتلقي الدعوة ولا يسوغ تقديم ذوي الجاه والمنصب على الضعفاء والمساكين.
3- يلزم الدعاة والعلماء الاحتفاء بكل مقبل على سماع الحق وتقديم كلّ ما يمكن في سبيل تزكيته وتعليمه وتذكيره.
4- لا ينبغي الأسف على إعراض المعاندين واستكبار المتجبرين إذ لا يضرون إلا أنفسهم، والإسلام غني عنهم.
5- إنّ في قصة الأعمى خاصة، وفي القرآن عامة أعظم تذكرة لمن أراد النجاة في الآخرة والسعادة في الدنيا وأراد معرفة المنهجية السليمة في التعامل مع الخلق دعوة وتعليماً.
6- أن للإنسان حقُّ الاختيار بين طريقي الخير والباطل وبين الإيمان والكفر، ولكنه يتحمل نتيجة اختياره يوم القيامة.
7- أن القرآن والآيات المنزلة محفوظة في أصلها في اللوح المحفوظ في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، وأنها تكتب وتحفظ بأيدي الملائكة الكرام البررة.
8- قبح طوية الإنسان الكافر وغروره، وشدّ عناده واستكباره وجحوده لقدرة الله على البعث مع ضعفه وحقارة أصله.
9- بيانُ أصل خلق الإنسان، وأنّه من نطفة مهينة ضعيفة حقيرة!.
10- أن الله - تعالى - قدّر بسابق علمه وكتابه مصير كل إنسان ورزقه وأجله، وسعادته، أو شقاوته منذ كان في بطن أمه.
11- عظم منَّة الله على الإنسان حيث يسّر له الخروج من بطن أمه بقدرته ويسّر له معرفة طريق الحق بمنه وكرمه!.
12- إثبات البعث والنشور وأنه حقيقة كائنة لا محالة.
13- امتنان الله - تعالى - على الإنسان بإطعامه أنواع الطعام والشراب بلا حول منه ولا قوة.
14- أنّ هذه البساتين الغناء والثمار اليانعة والأنهار الجارية متاع لبني الإنسان ودوابه لا يلبث أن يحول ويزول!.
15- إثبات النفخ في الصور للصعقة والموت ومن ثم للبعث والإحياء.
16- شدة أهوال القيامة بحيث يفر كل قريب من قريبه وكل حبيب من حبيبه!.
17- بيان حال أهل السعادة وما هم عليه من نضارة الوجوه وإسفارها، وضحكها واستبشارها. س
18- بيان حال أهل الشقاوة وما هم عليه من اغبرار الوجوه واسودادها، وقبحها وظلامها!.
_________
[1] - قال محقق زاد الميسر: وأخرج الترمذي وحسّنه، والحاكم وصححه وابن حبان عن عائشة: قالت: أنزلت سورة: (عبس وتولى) في ابن أم مكتوم الأعمى... ثم ساق نحو القصة.
قلت: ورواه الطبراني في تفسيره بنصها.
((للأمانة..الكاتب: رياض محمد المسيميري))
مكية بالإجماع
سبب النزول:
قال ابن الجوزي: قال المفسرون[1] كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأمية، وأبيّ بن خلف، ويدعوهم إلى الله - تعالى -، ويرجو إسلامهم، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى؛ فقال: علمّني يا رسول الله ممّا علّمك الله، وجعل يناديه، ويكرر النداء، ولا يدري أنّه مشتغل بكلام غيره، حتى ظهرت الكراهية في وجهه لقطعه كلامه؛ فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقبل على القوم يكلمهم، فنزلت هذه الآيات فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكرمه بعد ذلك، ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ".
قال - تعالى -: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى* وَهُوَ يَخْشَى* فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى* كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ)).
شرح الغريب:
(عَبَسَ): أي قطّب جبينه: والعابس هنا: هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
(وَتَوَلَّى): أعرض، أي أعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأعمى، واشتغل بدعوة صناديق قريش.
(يَزَّكَّى): أي: يتطهر من الذنوب، ويتزود من الباقيات الصالحات.
(اسْتَغْنَى): أي استكثر بماله عن الإيمان بربه.
(تَصَدَّى): تقبل عليه بوجهك طامعاً في إيمانه.
(كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ): أي هذه العظة، وهذه السورة تذكرة.
(فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ): الصحف هي: الكتب، والمراد بها إما:
1- اللوح المحفوظ. 2- أو كتب الأنبياء السابقة، والراجح الأول.
(مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ): أي: مرفوعة مكاناً ومكانةً، مطهرة من كلّ دنس ورجس، ومن كل زيادة ونقص.
(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ): أي، الملائكة، والسفرة: هم الكتبة، وقيل: الملائكة السفراء بين الله ورسله بالوحي.
(كِرَامٍ بَرَرَةٍ): أي مكرمون عند ربهم، وكرام عليه - سبحانه -، والبررة: المطيعون، جمع بار، قال الفرّاء: واحد " البررة " في قياس العربية: بارٌ؛ لأنَ العرب لا تقول: فَعَلَة ينوون به الجمع إلا والواحد منه: فاعل، مثل: كافر وكفرة، وفاجر وفجرة، قال ابن كثير: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ): أي خُلقهم كريم، حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارّة طاهرة كاملة، ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
هداية الآيات:
في أول كلمة من هذه السورة الشريفة، يسجل القرآن الكريم بكلّ دقة، ويُصوّر بكلّ وضوح، موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاه الأعمى القادم إليه طالباً للعلم، وساعياً يبتغي الفائدة.
فيُظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عابس الجبين في وجه ابن أم مكتوم الأعمى الضرير، ويظل الموقف المُسجّل بدقة قرآناً يتلى إلى يوم القيامة ليدرك حملة الرسالات، وأرباب الدعوات، وأهل العلم أنّ وظيفتهم لا تتجاوز حدود تبليغ رسالات الله إلى العالمين، مع إعطاء الجميع فرصاً متساوية في تلقي شريعة الله، لا فرق بين كبير وصغير، وسيد ومملوك!.
وأن أولئك الكبراء والسادة، وعليةّ القوم، ورؤسائهم أحوج إلى نور الإسلام، وشريعة الرحمن من غيرهم وأن الإسلام ليس بحاجة إليهم ولا إلى غيرهم!.
لقد عبس نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في وجه الأعمى، وما كان له أن يعبس وأعرض عنه، وما كان له أن يعرض، لأنّ حاجة الأعمى للإسلام وللفقة في شريعة الله لا تقل عن حاجة أبي جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما من سادة المشركين، فالكل محتاجون إلى الهداية والاستنارة بهدي القرآن والسُنّة سواء بسواء!.
وقد ذكر الله - تعالى -لنبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن الاهتمام بشأن الأعمى ربما كان سبب زكاة نفسه وصلاحها، وانتفاعها بالذكرى وفلاحها، وهو سبب وجيه لا يجوز إهماله.
ثم ذكر - سبحانه -: ((أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى)) فليس ثمة فائدة من في الحرص الشديد على إسلامه، وهدايته، لأنّه هو الخاسر الأوحد حين تفوته مصلحة الإسلام والهداية فلا داعي لحرمان الساعين إلى الهداية، المقبلين عليها لحساب المعاندين والمستغنين!.
(وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى* وَهُوَ يَخْشَى* فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) وهي عبارة أعيدت بصيغة أخرى للتأكيد على ما سبق وأنّ الساعي إلى الهداية خشية لربه ورغبة في تزكية نفسه وإنقاذها من الضلال أحق بالاهتمام وأجدر بالتعليم والدعوة.
((كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ)) أي هذه الموعظة البليغة أو هذه الآيات المنزلة فيها تذكرة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولورثته في حمل الشريعة وتبليغ الرسالة، بأن لا يحابوا أحداً ولا يجاملوه مهما بلغ شأنه، وعلا جاهه وألا يحرموا أحداً من العلم والدعوة مهما صغر شأنه وقلّ قدره!.
وهذه الموعظة البليغة، والآيات الكريمة مدونة في: ((فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ)) أي في اللوح المحفوظ عالية القدر رفيعة المنزل والمنزلة، وهي كذلك بأيدي ملائكة مكرمين يسعون بها بين الله ورسله فلا تمسها يدٌ عابثة ولا يقربها شيطان مسترق للسمع ومن ثمّ فهي تصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيضاء نقية، طاهرة مرضية، فلله الحمد والمنة.
قوله - تعالى -: ((قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)).
شرح الغريب:
(قُتِلَ الْإِنسَانُ): أي لُعن والمراد بالإنسان: الإنسان المكذب الكافر الجاحد.
(مَا أَكْفَرَهُ): أي ما أشد كفره! ويحتمل المعنى: ما الذي جعله يكفر؟ فالأولى تعجبية، والثانية استفهامية.
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ): أي من أي عنصر ومادة خلق الله الإنسان؟
(مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ): أجاب الله - تعالى - بنفسه عن السؤال السابق، وبيّن أنّه خلق الإنسان من نطفة، فقدر أجله ورزقه وعمله وشقيا أو سعيدا.
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ): قيل: يسّر له الخروج من بطن أمه، وقيل: بيّن له طريق الحق وطريق الباطل، وكلا القولين حق.
(ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ): أي إذا شاء الله بعثه وخرج من قبره لأرض المحشر، يوم البعث والنشور!.
(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ): قال ابن كثر: كلا لما يقض ما أمره: معناه لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم!.
هدايةُ الآيات:
يمقتُ اللهُ - تعالى -، ويلعنُ كلّ كافر مكذب، جاحد للبعث والنشور، ويعجب من حاله وتكذيبه واستبعاده للبعث وهو المخلوق أساساً من نطفة مهينة حقيرة، فقدّر أجله ورزقه وعمله وشقاوته وسعادته، وهو الذي قد كان في بطن أمه ضعيفاً أسيراً لا يملك من أمره شيئاً..ثم أخرجه إلى دنياه الواسعة وأبقاه لأجل مضروب، وزمن محدود..ثم إذا حان أجله وُسِّد قبره، ليبقى رهين التراب والدود حتى قيام الساعة، ويأذن الله له ولسائر الخلائق بالخروج حيث الوقوف بين يدي الملك الديان!.
فيا لحقارة الكافر، ويا لجرءته على ربه، ويا لسوء ظنه بالخلّاق العظيم، والقهار ذي القوة المتين! فما باله يستعظم ويستبعد إعادته إلى الحياة وهو المخلوق من العدم؟!
ثم أين عقلُ هذا المغفل المغرور عن تلك السموات العاليات والأراضين الواسعات، والجبال الشاهقات، أفيكون خلقه أعسر على الله من هاتيك المخلوقات العجيبات؟!
ومن هداية الآيات الإشارة إلى قضية التقدير التي فصّلها ابن مسعود في حديثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- المتفق عليه، فعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعـود -رضي الله عنه-، قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: ((إن أحـدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفه، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مـضغـة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويـؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد؛ فوالله الـذي لا إلــه غـيره إن أحــدكم ليعـمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعـمل بعـمل أهــل النار فـيـدخـلها.
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فــيسـبـق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) رواه البخاري [رقم: 3208] ومسلم [رقم: 2643].
وهذا التقدير لا ينبغي أن يحول بين الإنسان والعمل إذ كلٌّ ميسرٌ لما خُلقَ له كما صح عنه عليه -صلى الله عليه وسلم- في غير حديث.
((ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)): وللسلف في الآية معنيان:
أحدهما: أي سهّلنا خروجه من بطن أمه.
ثانيهما: أي بيّنا له طريق الحق والباطل، والخير والشر.
وكلا المعنيين صالح لتفسير الآية، فإنّ الله - تعالى - يسّر على الحامل وضع جنينها، وسهل خروجه من رحمها برحمته ومنته، وفضله وكرمه.. ولولا تيسير الله لاستحال خروجه، وبقي عبئاً ثقيلاً في بطنها فما أعظم منة الله على نساء العالمين!.
كما أنّ التيسير المذكور قد يكون بمعنى تبيين طريق الحق والباطل، وطريق الخير والشر، وهو نعمة أجل من سابقتها وكرم من الله وفضل لولاه لبقي كل أحد متخبط في دياجير الضلالة والظلام، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
بيد أنّ الأكثرين استخفوا بهذه النعمة، وجحدوا فضلها وأهميتها فتنكروا لها فإذا بهم ضُلّالاً حائرين وفي أودية الكفر والفجور تائهين وغارقين.
((ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)): وهي آية تنطق بالمصير المحتوم الذي يؤول إليه كل مخلوق حي فما الحياة الدنيا إلا فترة قصيرة، ورحلة عابرة يهجم بعدها الموت فيضع حدّاً سريعاً وحاسماً لحياة الإنسان، لينتقل إلى قبره الموحش المظلم وحيداً فريداً فإما عمل صالح يأنس به ويزيل وحشته وينير قبره، وإما عمل سيء يزيده رهقاً ويكبله عناءً وشقاءً!.
((ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ)) فيظل الإنسان مقبوراً مأسوراً في حفرته أجلاً لا يعلم مداه إلا الله، حتى إذا أذن الله للقيامة أن تقوم، وللخلائق أن تقف بين يديه، نفخ الملك الموكل بالصور في بوقه!.
((فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ)) وهي نفخة عظيمة، دالة على عظمة قدرة الله حيث أعاد الأرواح إلى أجسادها وبعث الجميع بلا نقص ولا فوت: ((لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً)) (مريم: 94).
وفي الآية دلالة بأنّ الله - تعالى- قد حَجَبَ علم الساعة عن الخلائق كلهم فلا يحيط بعلمها ملكٌ مقربٌ، ولا نبيٌ مرسلٌ: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)) الأعراف: 187.
((كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)) وهذه الآية تشيرُ إلى أنّ الله تعالى- قد قضى في سابق علمه وقدره أنه سيوجِدُ خلائقَ وأمماً متتابعة من الناس، وأنه لن يكون ثَمة بعث إلا بعد أن يمضي قضاؤه في إيجادهم وخلقهم، ويستوفي لهم آجالهم وأعمارهم حتى إذا تحقق أمره، وتم مراده جرت مقادير الله بزوال الدنيا وقدوم الآخرة، بأهوالها وأحداثها العظام!.
((فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)).
شرح الغريب:
(أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً): أي أنزلناه من السحاب.
(شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً): أي تفتقت الأرض بخروج النبات.
(وَقَضْباً): هو طعام نابت من الأرض تأكله الدواب يقال له: القَت، وقيل: العلف.
(وَحَدَائِقَ غُلْباً): أي بساتين ذوات أشجار طويلة وغليظة.
(وَأَبّاً): قيل طعام آخر نابت في الأرض تأكله الدواب كالعشب ونحوه.
(مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ): أي هذه الزروع والنباتات الخارجة من شقوق الأرض إنما هي بمثابة المتاع الدنيوي لبني الإنسان وما تحت أيديهم من البهائم.
هداية الآيات:
لعلّ مناسبة هذه الآيات لسابقتها ظاهر بجلاء فإنّ العلاقة وثيقة بين قضية البعث، وإحياء الأرض الموات بالمطر، وكثيراً ما يمثل القرآن الكريم للبعث بإنزال المطر وإحياء الأرض لما بينهما من التماثل العظيم والتشابه الوطيد.
ولو تأمل الجاحدون للبعث والنشور هذه التشابه الدقيق لما تحيروا في إمكانية إعادة الخلائق، وبعث الأموات فما ذلك على الله بعزيز.
((فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه)) أي فليتأمل الإنسان بتدبر وتعقل غذاءه الذي يتغذي به، من خلقه؟ وكيف خلقه؟
وحقيقة الأمر أنّ الله أمر السحاب فحملت الماء، ثم أمرها ثانية فصبّت ماءها في تضاعيف الأرض؛ فتشققت حدائق غناء، ودوحات فيحاء؛ فإذا بالحبوب تملأ أركانها وعروش العنب تزين أطرافها.
وإذا بأشجار الزيتون أنواعاً وألواناً، وإذا بالنخيل الباسقات تشدو بأعذب الألحان، وتلهج بأجمل التسبيح بحمد الخالق المدبر!.
وإذا بالفواكه اللذيذات بُرتقالاً وتُفاحاً، ورُماناً وتيناً قد صبغت البساتين بألوان متنوعات، وصور زاهيات ناطقة بعظمة اللطيف الخبير.
وهي رغم ذلك مجرد متاع مؤقت إلى أجل قريب تعود بعدها الجنات اليافعات، والبساتين اليانعات بلاقع يابسات، وهشيماً غابرات!.
قال القرطبي: وهذا ضرب مثل ضربه الله -تعالى- لبعث الموتى من قبورهم كنبات الزرع بعد دثوره!
(فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ *وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ).
شرح الغريب:
(الصَّاخَّة): اسمٌ من أسماء القيامة، وقيل: هي صيحة القيامة سُمِّيت بذلك؛ لأنها تضخُّ الأسماع، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصّمها.
(وَصَاحِبَتِهِ): زوجته.
(مُّسْفِرَةٌ): مستنيرة ومشرقة.
(غَبَرَةٌ): أي: غبار يعلو الوجوه.
(تَرْهَقُهَا): تغشاها وتعلوها.
(قَتَرَةٌ): أي: سواد، وقيل: دخان، وقيل: ظلمة، وكل هذه الأقوال حق وصدق.
(الْفَجَرَةُ): جمع فاجر، وهو الفاسق.
هداية الآيات:
في هذه الآيات الكريمات يُصوّر القرآن الكريم حالة الذهول والهلع التي تصيب الناس حال النفخ في الصور وقيام الساعة، فيفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وزوجته وبنيه لانشغال كلّ منهم بنفسه عن غيره وسعيه للخلاص من هول الموقف وكرب الحشر، فلا أخ يلتفت لأخيه، ولا ولد يفكر بأمه وأبيه، ولا زوج يراعي زوجته أو أبناءه فرحماك يا إلهي!.
فهل تفكر في هول تلك الساعات، وشدة هاتيك اللحظات من أسرفوا على أنفسهم، وأكبوا على المعاصي والذنوب واستكثروا من الفواحش والآثام، وظلموا البلاد والعباد؟!
فوائد السورة:
1-أنّ الله - تعالى - لا يُحابي أحداً على حساب الحق حتى لو كان أحب عباده إليه، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- فحين عبس في وجه الأعمى عاتبه الله، وأرشده إلى الصواب.
فلا ينبغي بعد هذا أن يغتر أحد بعلمه أو جاهه فيخالف الحق ويقتحم الباطل، أو يتقدم بين يدي الله ورسوله؛ فإنّ الله مطلع عليه عالم به.
2- وجوب العدل في معاملة الخلق لاسيما في حقوقهم الدعوية وإتاحة الفرصة لهم في العلم وتلقي الدعوة ولا يسوغ تقديم ذوي الجاه والمنصب على الضعفاء والمساكين.
3- يلزم الدعاة والعلماء الاحتفاء بكل مقبل على سماع الحق وتقديم كلّ ما يمكن في سبيل تزكيته وتعليمه وتذكيره.
4- لا ينبغي الأسف على إعراض المعاندين واستكبار المتجبرين إذ لا يضرون إلا أنفسهم، والإسلام غني عنهم.
5- إنّ في قصة الأعمى خاصة، وفي القرآن عامة أعظم تذكرة لمن أراد النجاة في الآخرة والسعادة في الدنيا وأراد معرفة المنهجية السليمة في التعامل مع الخلق دعوة وتعليماً.
6- أن للإنسان حقُّ الاختيار بين طريقي الخير والباطل وبين الإيمان والكفر، ولكنه يتحمل نتيجة اختياره يوم القيامة.
7- أن القرآن والآيات المنزلة محفوظة في أصلها في اللوح المحفوظ في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، وأنها تكتب وتحفظ بأيدي الملائكة الكرام البررة.
8- قبح طوية الإنسان الكافر وغروره، وشدّ عناده واستكباره وجحوده لقدرة الله على البعث مع ضعفه وحقارة أصله.
9- بيانُ أصل خلق الإنسان، وأنّه من نطفة مهينة ضعيفة حقيرة!.
10- أن الله - تعالى - قدّر بسابق علمه وكتابه مصير كل إنسان ورزقه وأجله، وسعادته، أو شقاوته منذ كان في بطن أمه.
11- عظم منَّة الله على الإنسان حيث يسّر له الخروج من بطن أمه بقدرته ويسّر له معرفة طريق الحق بمنه وكرمه!.
12- إثبات البعث والنشور وأنه حقيقة كائنة لا محالة.
13- امتنان الله - تعالى - على الإنسان بإطعامه أنواع الطعام والشراب بلا حول منه ولا قوة.
14- أنّ هذه البساتين الغناء والثمار اليانعة والأنهار الجارية متاع لبني الإنسان ودوابه لا يلبث أن يحول ويزول!.
15- إثبات النفخ في الصور للصعقة والموت ومن ثم للبعث والإحياء.
16- شدة أهوال القيامة بحيث يفر كل قريب من قريبه وكل حبيب من حبيبه!.
17- بيان حال أهل السعادة وما هم عليه من نضارة الوجوه وإسفارها، وضحكها واستبشارها. س
18- بيان حال أهل الشقاوة وما هم عليه من اغبرار الوجوه واسودادها، وقبحها وظلامها!.
_________
[1] - قال محقق زاد الميسر: وأخرج الترمذي وحسّنه، والحاكم وصححه وابن حبان عن عائشة: قالت: أنزلت سورة: (عبس وتولى) في ابن أم مكتوم الأعمى... ثم ساق نحو القصة.
قلت: ورواه الطبراني في تفسيره بنصها.
رد: تأملات في سورة عبس
شكر جزيلا للطرح القيم
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
تحيتي وتقديري لك
وددي قبل ردي .....!!
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
تحيتي وتقديري لك
وددي قبل ردي .....!!
MED - BOX HD- مدير ستار ديس
- تاريخ التسجيل : 20/08/2018المساهمات : 1156نقاط التميز : 1969
رد: تأملات في سورة عبس
مشكور على الموضوع
سلمت يداك
بارك الله فيك
واصل ابداعك
سلمت يداك
بارك الله فيك
واصل ابداعك
هلال- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 23/08/2018المساهمات : 259نقاط التميز : 260
رد: تأملات في سورة عبس
شكرا على الموضوع الرائعع
دمت فخرا للمنتدى
التوقيع
_________________
جودي- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 25/08/2018المساهمات : 321نقاط التميز : 353الجنس :العمر : 22الأبراج :
رد: تأملات في سورة عبس
شكرا على الموضوع القيم
فؤاد- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 19/09/2018المساهمات : 282نقاط التميز : 282العمر : 24الأبراج :
رد: تأملات في سورة عبس
شكر جزيلا للطرح القيم
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
شيكاغو- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 25/09/2018المساهمات : 336نقاط التميز : 336الجنس :العمر : 22الأبراج :
رد: تأملات في سورة عبس
بصراحــه رائع جدا هذا الموضوع
بصراحه انت تمتلك ذوق راقي في جـلب ماهو مميّز وجميل
دائما كلماتك ترتدي ثوب التميز والابداع الثقيلان
صح أحساسك ولسانك ودام توهجك
التوقيع
_________________
منتدى احلى تومبلايت
مواضيع مماثلة
» تأملات في سورة مريم
» تأملات قرآنية
» تأملات في حديث الفتن
» الحديث الصحفي .. تأملات في تعريفه
» أجمل صناعة في الحياة .. تأملات في قوله تعالى: (ولتصنع على عيني)
» تأملات قرآنية
» تأملات في حديث الفتن
» الحديث الصحفي .. تأملات في تعريفه
» أجمل صناعة في الحياة .. تأملات في قوله تعالى: (ولتصنع على عيني)
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى