مراحل تدوين الحديث النبوي
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
مراحل تدوين الحديث النبوي
مراحل تدوين الحديث النبوي
المرحلة الأولى : تلقي الصحابة للسنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
تلقى المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث النبوي كما تلقوا القرآن الكريم ؛ فقد كان الحديث النبوي مادتهم لمعرفة ما خفي من القرآن الكريم ، مادتهم التطبيقية التي تتعلق بهم في جميع أمور حياتهم ؛ من عقائد ، وعبادات ، ومعاملات ، وآداب .
ولهذا كان الصحابة حريصين عليه ، محبين له ، يتسابقون إلى مجالس رسولهم الكريم ، يدفعهم إلى ذلك إيمانهم القوي ، وحبهم لرسولهم ، وقد كان يعسر على بعضهم حضور تلك المجالس ؛ لانشغالهم بشئون حياتهم الأخرى ، فكانوا يتناوبون مجالسه صلى الله عليه وآله وسلم ، كما كان يفعل ذلك الفاروق عمر رضي الله عنه حين قال : كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ينزل يوما ، وأنزل يوما ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك .
ولقد كان الصحابة يحفظون الحديث ، ويكررونه بينهم وبين أنفسهم ، وكان منهم من يجزئ الليل ثلاثة أثلاث ، فثلث للصلاة ، وثلث للنوم ، وثلث يذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل إنهم كانوا يتذاكرون فيما بينهم ما يسمعون منه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يحفظوه .
ولم ينحصر تلقي الصحابة للسنة في حضور مجالسه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ وإنما كان التلقي أيضا من خلال تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في وقائع وحوادث شاهدها صحابته ، فتلقوها عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، ونقلوها إلى من بعدهم من التابعين ، وهي تمثل جزءا كبيرا من السنة النبوية ، ولاسيما هديه في العبادات والمعاملات ، وسيرته عامة .
ومن هذه الحوادث ما كان يقع للرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه فيبين حكمها .
مثال ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يبيع طعاما فسأله : كيف تبيع ؟ فأخبره ، فأوحي إليه : أدخل يدك فيه ، فأدخل يده ، فإذا هو مبلول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ليس منا من غش " .
ومنها ما كان يقع للمسلمين فيسألونه صلى الله عليه وآله وسلم عن حكمها ، ومن هذه الحوادث ما يتناول خصوصيات السائل نفسه ، ومنها ما يتعلق بغيره ، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد يسمع أو يرى أحد الصحابة يخطئ فيصحح له خطأه ، وقد يختلف اثنان من الصحابة في مسألة من المسائل فيرجعان إليه ؛ ليفصل بينهما مبينا لهما الحكم الصحيح .
المرحلة الثانية : احتياط الصحابة والتابعين في رواية الحديث ، وتثبتهم في قبوله بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
سبق لنا أن رأينا كيف حرص الصحابة على تلقي السنة والتمسك بها ، واقتدائهم برسولهم الكريم ، وقد سار التابعون سير الصحابة في هذا الاقتداء .
غير أن هؤلاء وأولئك في الوقت نفسه احتاطوا في قبول الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتثبتوا في قبول الأخبار عنه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ خشية الوقوع في الخطأ ، وخوفا من أن يتسرب إلى السنة بعض التحريف وهي مصدر التشريع الثاني ، ولهذا اعتدلوا في الرواية ، احتراما للحديث ، لا زهدا فيه ، وكانوا حين يروون الأحاديث يتحرون الدقة عند الأداء ، واشتهر من بين الصحابة من كان ينكر على من يكثر الرواية ؛ كعمر بن الخطاب ، بل إن بعض الصحابة من كانت تأخذه رعدة ، ويقشعر جلده ويتغير لونه حين يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
إن الصحابة لم يسلكوا هذا الطريق لأن الحديث لديهم قليل ، بل فعلوا ذلك احتياطا وحرصا على السنة ؛ ذلك لأن كثرة الرواية مظنة الوقوع في الخطأ .
ولقد التزم الصحابة منهاج عمر في التقليل من الرواية مع كثرة تحملهم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فها هو ذا أنس بن مالك يقول : لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان إذا حدث حديثا عن رسول الله ، وفرغ منه قال : أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقد روي عنه أنه قال : إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : " من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار " .
وذكر السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة ، قال : فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا حتى رجع .
وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال : قلت للزبير بن العوام : مالي لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أسمع ابن مسعود ، وفلانا ، وفلانا ؟ قال : أما إني لم أفارقه منذ أسلمت ، ولكني سمعت منه كلمة ، يقول : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " .
وفي رواية : سمعته يقول: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار " .
وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال : قلنا لزيد بن أرقم : حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : كبرنا ونسينا ، والحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شديد .
ومن كل ما سبق يتضح لنا جليا كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتشددون في رواية الحديث ؛ كراهة التحريف أو الوقوع في الخطأ أو رواية ما لم يقله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد نهاهم صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ، أضف إلى ذلك أن تشدد الصحابة - وبخاصة في زمن عمر - إلى جانب أنه كان للمحافظة على السنة ؛ خشية الوقوع في الخطأ ، أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الكذابين وأصحاب الأهواء ، أو حمل الحديث على غير وجه الحق والصواب ، فقد كان أيضا للمحافظة على القرآن الكريم ؛ خشية أن يشتغل الناس برواية الحديث ، ويتركوا القرآن وهو المصدر الأول لهذا الدين .
وإلى جانب ما كان من الصحابة ومن بعدهم من التابعين في الاحتياط في الرواية ، فقد كانوا يتثبتون في قبول الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقبلوا ما يروى لهم إلا إذا اطمأنوا إليه ، وكان لهم في ذلك طرق ومناهج مختلفة ، فمنهم من لا يقبل الحديث إلا إذا شهد اثنان أنهما سمعاه منه صلى الله عليه وآله وسلم كأبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب .
ومن الأمثلة على تثبت الصحابة في قبول الحديث :
المثال الأول : ما رواه ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث ، فقال : ما أجد لك في كتاب الله شيئا ، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر شيئا ، ثم سأل الناس ، فقام المغيرة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها السدس ، فقال له : هل معك أحد ، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك ، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه .
المثال الثاني : ما رواه الإمام البخاري ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور ، فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، فقال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " ، فقال : والله لتقيمن عليه بينة ، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنت أصغر القوم ، فقمت معه ، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ، فقال عمر لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
كذلك ومن الصحابة من كان يستحلف الراوي للحديث أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كعلي بن أبي طالب ، فقد قال رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر ، حدثني ، وصدق أبو بكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : " ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ ، فيحسن الوضوء ، ويصلي ركعتين ، فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له " .
هكذا في سبيل الاحتياط للسنة احتاط الصحابة في قبول الحديث ، واختاروا لأنفسهم مناهج يسيرون عليها ، غير أنهم لم يشترطوا لقبول الرواية السير على هذا النهج دائما وأبدا ، فنجد من كانوا يتثبتون باستحلاف الرواة قبلوا أحاديث كثيرة دون استحلاف ، ويدل على ذلك قول علي رضي الله عنه في الرواية السابقة : وإن أبا بكر حدثني ، وصدق أبو بكر ؛ فيدل ذلك على أنه كان يقبل رواية أبي بكر دون استحلاف ، كما أنه رضي الله عنه عمل برواية المقداد بن الأسود في حكم المذي دون استحلافه .
كذلك لم يكن التابعون وأتباعهم أقل اهتماما من الصحابة في الاحتياط عند قبول الرواية ، فكانوا يتثبتون من الراوي ، حتى يستوثقوا منه وتطمئن قلوبهم ؛ لأنهم كانوا يرون الحديث دينا يجب النظر عمن يكون أخذه ، كما أوصاهم بذلك من سبقهم من الصحابة وكبار التابعين ، فقد كان ابن عون مثلا يقول : لا يؤخذ هذا العلم إلا ممن شهد له بالطلب .
وروي عن سليمان بن موسى أنه لقي طاووسا فقال له : إن رجلا حدثني بكيت وكيت ، فقال له : إن كان مليا فخذه منه .
وعلى مثل هذا كان يسير التابعون وتابعوهم .
المرحلة الثالثة : تدوين الحديث في عهد الصحابة والتابعين:
على الرغم مما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الترخيص بالكتابة وإباحته لبعض الصحابة بتدوين الحديث ، وعلى الرغم مما كتب من كتب وصحف في عهده كانت بناء على إذنه العام في آواخر أيامه ، إلا أن الصحابة بوجه عام نراهم قد أحجموا عن الكتابة في عهد الخلافة الراشدة ؛ احتياطا منهم وحرصا على سلامة القرآن الكريم والسنة النبوية من الاشتباه ، فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان خمسمائة حديث ، فبات ليلة يتقلب كثيرا . . . فلما أصبح قال : أي بنية ، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكر في جمع السنة ، لكنه عدل عن ذلك فعن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن ، فاستفتى أصحاب النبي في ذلك ، فأشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له ، فقال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم ، كتبوا كتبا ، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا وفي رواية ، من طريق مالك بن أنس ، أن عمر قال عندما عدل عن كتابة السنة : لا كتاب مع كتاب الله .
فعمر كان يخشى من إقدامه على كتابة السنة أن ينكب الناس على دراسة غير القرآن ، أو يتخذوا كتابا مع كتاب الله ، غير أننا نرى عمر بعد ذلك ، وحينما يأمن حفظ القرآن يكتب بشيء من السنة إلى عماله وأصحابه
فعن أبي عثمان النهدي قال : كنا مع عتبة بن فرقد ، فكتب إليه عمر بأشياء يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال علي بن أبي طالب خطيبا : أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه ، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم .
كما روي عن عبد الله بن مسعود كراهيته لكتابة الحديث ، وكذلك روي عن أبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن عمر ، وأبي موسى الأشعري ، وغيرهم .
غير أن إحجام هؤلاء الصحابة عن الكتابة لم يدل على إهمالهم للسنة ومذاكرتها أو تدوينها عند زوال مانع الكراهة ، حيث ثبت بعدها عن كثير من الصحابة الحث على كتابة الحديث ، أو على الأقل استباحة تدوينه بعد أن زالت أسباب الكراهة ، بل إن عمر نفسه الذي هم بجمع السنن ، لم يكن يشك في جواز الكتابة ، وإلا لما هم بفعل شيء منعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إن إحجام عمر إنما كان لمانع يقتضي التريث في التدوين والجمع ؛ ولذلك رأيناه يكتب بنفسه حين يأمن اللبس ، ويثق بمن يكتب له ، وربما سمع الفاروق بكتابة الحديث بعد أن رأى حفظ الأمة لكتاب الله تعالى ، ورأى جمعه في المصحف الشريف ، ويشهد لقولنا هذا قول عمر رضي الله عنه : قيدوا العلم بالكتاب .
كذلك فإن أبا بكر الصديق كتب إلى أنس بن مالك فرائض الصدقة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد سبق لنا ذكر خبر صحيفة علي بن أبي طالب التي كانت تحتوي على أسنان الإبل ، وشيء من الجراحات .
ولقد نهج التابعون نهج الصحابة الذين تلقوا عنهم ، فمن الطبيعي أن تتفق آراء من سبقوهم من الصحابة حول حكم التدوين ، فالأسباب التي حملت صحابة رسول الله على كراهة الكتابة ، والعزوف عنها ، في كثير من الأحيان ، هي نفسها التي حملت التابعين عليها ، ومن هنا فقد كره الجميع الكتابة ما دامت أسباب الكراهة قائمة ، أما عند زوالها فالجميع يستبيحونها .
ولقد زادت كراهية التابعين للكتابة حينما اشتهر بينهم تدوين آرائهم الشخصية إلى جانب الحديث ، فخافوا الالتباس ، ومن هنا كرهوا الكتابة ؛ خشية أن تختلط آراؤهم بالحديث الشريف ، فهم إذا كرهوا أن تدون آراؤهم فتؤخذ مأخذ الحديث .
صيد الفوائد
المرحلة الأولى : تلقي الصحابة للسنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
تلقى المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث النبوي كما تلقوا القرآن الكريم ؛ فقد كان الحديث النبوي مادتهم لمعرفة ما خفي من القرآن الكريم ، مادتهم التطبيقية التي تتعلق بهم في جميع أمور حياتهم ؛ من عقائد ، وعبادات ، ومعاملات ، وآداب .
ولهذا كان الصحابة حريصين عليه ، محبين له ، يتسابقون إلى مجالس رسولهم الكريم ، يدفعهم إلى ذلك إيمانهم القوي ، وحبهم لرسولهم ، وقد كان يعسر على بعضهم حضور تلك المجالس ؛ لانشغالهم بشئون حياتهم الأخرى ، فكانوا يتناوبون مجالسه صلى الله عليه وآله وسلم ، كما كان يفعل ذلك الفاروق عمر رضي الله عنه حين قال : كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ينزل يوما ، وأنزل يوما ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك .
ولقد كان الصحابة يحفظون الحديث ، ويكررونه بينهم وبين أنفسهم ، وكان منهم من يجزئ الليل ثلاثة أثلاث ، فثلث للصلاة ، وثلث للنوم ، وثلث يذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل إنهم كانوا يتذاكرون فيما بينهم ما يسمعون منه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يحفظوه .
ولم ينحصر تلقي الصحابة للسنة في حضور مجالسه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ وإنما كان التلقي أيضا من خلال تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في وقائع وحوادث شاهدها صحابته ، فتلقوها عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، ونقلوها إلى من بعدهم من التابعين ، وهي تمثل جزءا كبيرا من السنة النبوية ، ولاسيما هديه في العبادات والمعاملات ، وسيرته عامة .
ومن هذه الحوادث ما كان يقع للرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه فيبين حكمها .
مثال ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يبيع طعاما فسأله : كيف تبيع ؟ فأخبره ، فأوحي إليه : أدخل يدك فيه ، فأدخل يده ، فإذا هو مبلول ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " ليس منا من غش " .
ومنها ما كان يقع للمسلمين فيسألونه صلى الله عليه وآله وسلم عن حكمها ، ومن هذه الحوادث ما يتناول خصوصيات السائل نفسه ، ومنها ما يتعلق بغيره ، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد يسمع أو يرى أحد الصحابة يخطئ فيصحح له خطأه ، وقد يختلف اثنان من الصحابة في مسألة من المسائل فيرجعان إليه ؛ ليفصل بينهما مبينا لهما الحكم الصحيح .
المرحلة الثانية : احتياط الصحابة والتابعين في رواية الحديث ، وتثبتهم في قبوله بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
سبق لنا أن رأينا كيف حرص الصحابة على تلقي السنة والتمسك بها ، واقتدائهم برسولهم الكريم ، وقد سار التابعون سير الصحابة في هذا الاقتداء .
غير أن هؤلاء وأولئك في الوقت نفسه احتاطوا في قبول الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتثبتوا في قبول الأخبار عنه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ خشية الوقوع في الخطأ ، وخوفا من أن يتسرب إلى السنة بعض التحريف وهي مصدر التشريع الثاني ، ولهذا اعتدلوا في الرواية ، احتراما للحديث ، لا زهدا فيه ، وكانوا حين يروون الأحاديث يتحرون الدقة عند الأداء ، واشتهر من بين الصحابة من كان ينكر على من يكثر الرواية ؛ كعمر بن الخطاب ، بل إن بعض الصحابة من كانت تأخذه رعدة ، ويقشعر جلده ويتغير لونه حين يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
إن الصحابة لم يسلكوا هذا الطريق لأن الحديث لديهم قليل ، بل فعلوا ذلك احتياطا وحرصا على السنة ؛ ذلك لأن كثرة الرواية مظنة الوقوع في الخطأ .
ولقد التزم الصحابة منهاج عمر في التقليل من الرواية مع كثرة تحملهم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فها هو ذا أنس بن مالك يقول : لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان إذا حدث حديثا عن رسول الله ، وفرغ منه قال : أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقد روي عنه أنه قال : إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : " من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار " .
وذكر السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة ، قال : فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا حتى رجع .
وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال : قلت للزبير بن العوام : مالي لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أسمع ابن مسعود ، وفلانا ، وفلانا ؟ قال : أما إني لم أفارقه منذ أسلمت ، ولكني سمعت منه كلمة ، يقول : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " .
وفي رواية : سمعته يقول: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار " .
وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال : قلنا لزيد بن أرقم : حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : كبرنا ونسينا ، والحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شديد .
ومن كل ما سبق يتضح لنا جليا كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتشددون في رواية الحديث ؛ كراهة التحريف أو الوقوع في الخطأ أو رواية ما لم يقله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد نهاهم صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ، أضف إلى ذلك أن تشدد الصحابة - وبخاصة في زمن عمر - إلى جانب أنه كان للمحافظة على السنة ؛ خشية الوقوع في الخطأ ، أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الكذابين وأصحاب الأهواء ، أو حمل الحديث على غير وجه الحق والصواب ، فقد كان أيضا للمحافظة على القرآن الكريم ؛ خشية أن يشتغل الناس برواية الحديث ، ويتركوا القرآن وهو المصدر الأول لهذا الدين .
وإلى جانب ما كان من الصحابة ومن بعدهم من التابعين في الاحتياط في الرواية ، فقد كانوا يتثبتون في قبول الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقبلوا ما يروى لهم إلا إذا اطمأنوا إليه ، وكان لهم في ذلك طرق ومناهج مختلفة ، فمنهم من لا يقبل الحديث إلا إذا شهد اثنان أنهما سمعاه منه صلى الله عليه وآله وسلم كأبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب .
ومن الأمثلة على تثبت الصحابة في قبول الحديث :
المثال الأول : ما رواه ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث ، فقال : ما أجد لك في كتاب الله شيئا ، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر شيئا ، ثم سأل الناس ، فقام المغيرة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها السدس ، فقال له : هل معك أحد ، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك ، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه .
المثال الثاني : ما رواه الإمام البخاري ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور ، فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، فقال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " ، فقال : والله لتقيمن عليه بينة ، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنت أصغر القوم ، فقمت معه ، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ، فقال عمر لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
كذلك ومن الصحابة من كان يستحلف الراوي للحديث أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كعلي بن أبي طالب ، فقد قال رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر ، حدثني ، وصدق أبو بكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : " ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ ، فيحسن الوضوء ، ويصلي ركعتين ، فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له " .
هكذا في سبيل الاحتياط للسنة احتاط الصحابة في قبول الحديث ، واختاروا لأنفسهم مناهج يسيرون عليها ، غير أنهم لم يشترطوا لقبول الرواية السير على هذا النهج دائما وأبدا ، فنجد من كانوا يتثبتون باستحلاف الرواة قبلوا أحاديث كثيرة دون استحلاف ، ويدل على ذلك قول علي رضي الله عنه في الرواية السابقة : وإن أبا بكر حدثني ، وصدق أبو بكر ؛ فيدل ذلك على أنه كان يقبل رواية أبي بكر دون استحلاف ، كما أنه رضي الله عنه عمل برواية المقداد بن الأسود في حكم المذي دون استحلافه .
كذلك لم يكن التابعون وأتباعهم أقل اهتماما من الصحابة في الاحتياط عند قبول الرواية ، فكانوا يتثبتون من الراوي ، حتى يستوثقوا منه وتطمئن قلوبهم ؛ لأنهم كانوا يرون الحديث دينا يجب النظر عمن يكون أخذه ، كما أوصاهم بذلك من سبقهم من الصحابة وكبار التابعين ، فقد كان ابن عون مثلا يقول : لا يؤخذ هذا العلم إلا ممن شهد له بالطلب .
وروي عن سليمان بن موسى أنه لقي طاووسا فقال له : إن رجلا حدثني بكيت وكيت ، فقال له : إن كان مليا فخذه منه .
وعلى مثل هذا كان يسير التابعون وتابعوهم .
المرحلة الثالثة : تدوين الحديث في عهد الصحابة والتابعين:
على الرغم مما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الترخيص بالكتابة وإباحته لبعض الصحابة بتدوين الحديث ، وعلى الرغم مما كتب من كتب وصحف في عهده كانت بناء على إذنه العام في آواخر أيامه ، إلا أن الصحابة بوجه عام نراهم قد أحجموا عن الكتابة في عهد الخلافة الراشدة ؛ احتياطا منهم وحرصا على سلامة القرآن الكريم والسنة النبوية من الاشتباه ، فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان خمسمائة حديث ، فبات ليلة يتقلب كثيرا . . . فلما أصبح قال : أي بنية ، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكر في جمع السنة ، لكنه عدل عن ذلك فعن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن ، فاستفتى أصحاب النبي في ذلك ، فأشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له ، فقال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم ، كتبوا كتبا ، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا وفي رواية ، من طريق مالك بن أنس ، أن عمر قال عندما عدل عن كتابة السنة : لا كتاب مع كتاب الله .
فعمر كان يخشى من إقدامه على كتابة السنة أن ينكب الناس على دراسة غير القرآن ، أو يتخذوا كتابا مع كتاب الله ، غير أننا نرى عمر بعد ذلك ، وحينما يأمن حفظ القرآن يكتب بشيء من السنة إلى عماله وأصحابه
فعن أبي عثمان النهدي قال : كنا مع عتبة بن فرقد ، فكتب إليه عمر بأشياء يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال علي بن أبي طالب خطيبا : أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه ، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم .
كما روي عن عبد الله بن مسعود كراهيته لكتابة الحديث ، وكذلك روي عن أبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن عمر ، وأبي موسى الأشعري ، وغيرهم .
غير أن إحجام هؤلاء الصحابة عن الكتابة لم يدل على إهمالهم للسنة ومذاكرتها أو تدوينها عند زوال مانع الكراهة ، حيث ثبت بعدها عن كثير من الصحابة الحث على كتابة الحديث ، أو على الأقل استباحة تدوينه بعد أن زالت أسباب الكراهة ، بل إن عمر نفسه الذي هم بجمع السنن ، لم يكن يشك في جواز الكتابة ، وإلا لما هم بفعل شيء منعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إن إحجام عمر إنما كان لمانع يقتضي التريث في التدوين والجمع ؛ ولذلك رأيناه يكتب بنفسه حين يأمن اللبس ، ويثق بمن يكتب له ، وربما سمع الفاروق بكتابة الحديث بعد أن رأى حفظ الأمة لكتاب الله تعالى ، ورأى جمعه في المصحف الشريف ، ويشهد لقولنا هذا قول عمر رضي الله عنه : قيدوا العلم بالكتاب .
كذلك فإن أبا بكر الصديق كتب إلى أنس بن مالك فرائض الصدقة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد سبق لنا ذكر خبر صحيفة علي بن أبي طالب التي كانت تحتوي على أسنان الإبل ، وشيء من الجراحات .
ولقد نهج التابعون نهج الصحابة الذين تلقوا عنهم ، فمن الطبيعي أن تتفق آراء من سبقوهم من الصحابة حول حكم التدوين ، فالأسباب التي حملت صحابة رسول الله على كراهة الكتابة ، والعزوف عنها ، في كثير من الأحيان ، هي نفسها التي حملت التابعين عليها ، ومن هنا فقد كره الجميع الكتابة ما دامت أسباب الكراهة قائمة ، أما عند زوالها فالجميع يستبيحونها .
ولقد زادت كراهية التابعين للكتابة حينما اشتهر بينهم تدوين آرائهم الشخصية إلى جانب الحديث ، فخافوا الالتباس ، ومن هنا كرهوا الكتابة ؛ خشية أن تختلط آراؤهم بالحديث الشريف ، فهم إذا كرهوا أن تدون آراؤهم فتؤخذ مأخذ الحديث .
صيد الفوائد
ᴛʜᴇ ʀᴇᴅ ғʟᴏωᴇʀ- نجم ستارديس
- تاريخ التسجيل : 29/08/2018المساهمات : 3052نقاط التميز : 5482الجنس :العمر : 25الأبراج :
رد: مراحل تدوين الحديث النبوي
موضوع جد مميّز و ممتع كالعادة بارك الله فيك
شموخ القوافي- عضو ستارديس
- تاريخ التسجيل : 29/08/2018المساهمات : 1461نقاط التميز : 1687الجنس :العمر : 32الأبراج :
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى