دعوى تطوير الإسلام و خطر الإجتهاد الأهوج

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

دعوى تطوير الإسلام و خطر الإجتهاد الأهوج

مُساهمة من طرف القلب النابض الثلاثاء يناير 21, 2020 3:34 am


من كتاب "الإسلام و الحضارة الغربية" للمفكر المصري الكبير "محمد محمد حسين" رحمه الله تعالى.

أما الأمر الآخر الذي أحب أن ألفتَ النظر إلى خُطُورته، فهو تطوير الإسلام؛ لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية. وقد بدأ هذا الاتجاه؛ كما رأينا في أول الأمر بإحساس الحاجة إلى مواجهة الأقضية الجديدة باستنباط أحكام شرعية تُوافِقُها، ورأَيْنا صدى ذلك فيما كتبه الطهطاوي، وخيرالدين التونسي. فكتب الطهطاوي في "مناهج الألباب" عن (اقتضاء الأحكام والمُعامَلات العصرية تنقيحَ الأقضية والأحكام الشرعية بما يوافق مزاج العصر بدون شذوذ)، مقترحًا وضع مدوَّنة قانونية عصرية شاملة. ودعا خيرالدين إلى الاجتهاد في أضيق الحدود، بإعادة النظر في الأحكام المترتبة على العادات إذا تغيَّرت، وردَّ على منِ احتجَّ بأنه لا يحق لنا (إحداث شرع جديد لعدم أهليتنا للاجتهاد) بأن هذا (ليس بتجديد اجتهاد من المقلدين؛ بل هو قاعدة اجتهد فيها العلماء، وأجمعوا عليها).

كانتِ الدعوة إلى الاجتهاد في هذا الطور مقتصدة غاية الاقتصاد، تدعو إليه في أضيق الحدود، ولا تنكر التقليد؛ بل هي تسلم به، وتسلم بأن أهل هذا العصر ليسوا أَكْفَاء للاجتهاد. ومن كان منهم قادرًا على الاجتهاد لا يطمحُ إلى أكثر من الاجتهاد في حدود مذهب من المذاهب الأربعة، لا يتجاوزه إلى الاجتهاد المطلق، الذي يسمو فيه بنفسه إلى مرتبة الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المجتهدينَ الأولينَ.

ثم إنَّ الدعوةَ أصبحت من بعدُ على يد محمد عبده ومدرسته ولا سيما رشيد رضا، دعوةً عامَّة تهاجم التقليد، وتطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله دون قيد. فانفتح الباب على مصراعَيْهِ للقادرينَ ولغير القادرينَ، ولأصحاب الورع ولأصحاب الأهواء، حتى ظهرت الفتاوى التي تبيح الإفطار لأدني عذر؛ توسعًا في قوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، واستنادًا إلى إباحته في غزوة الفتح. وظهرت الفتاوى التي تبيحُ المعاملات التي تقوم على الربح، وتقسم الربا إلى: ربًا ظاهر وهو ربا النسيئة، الذين يتضاعف فيه الدَّيْنِ أضعافًا مضاعفة؛ وربًا خفي وهو ربا الفضل، ولا تحرِّم إلا ربا النسيئة، أو تحرِّم الربا في أصناف معينة "الخلافة 98، يسر الإسلام 58". وظهرت الفتاوى التي تحظُر تعدّد الزوجات، وتحظر الطلاق، وتُجِيزُ تدخل القضاء فيهما. وظهرت الآراء التي تجعل الإسلام داخلاً في هذا المذهب، أو ذاك من المذاهب السياسية والاجتماعية التي ابتدعتها الحضارة الغربية الحديثة. وبذلك تحوَّل الاجتهاد في آخِر الأمر إلى تطوير للشريعة الإسلامية يهدفُ إلى مطابقة الحضارة الغربية، أو الاقتراب منها إلى أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل على أقل تقدير.

الاجتهاد في الشريعة حق لكل عالم قادر عليه، ومن القدرة عليه أن يُلِمَّ بكل ما قيل في المسألة التي يبحثها؛ لأنه لا يدري إن فاته بعضها أن يكون هذا الذي فاته سببًا في عدوله عن رأيه لو اطلع عليه؛ لأن فيه من الحقائق ما غاب عنه ولم يدخل في تقديره. وشأن الاجتهاد الديني في ذلك هو شأن الاجتهاد في أيّ فرع من فروع المعارف والفنون. فليس يباحُ للطبيب أن يجتهد حتى يبلغ من الإلمام بالطب حدًّا يَعترفُ له عنده أصحاب هذا العلم بالقُدرة على الاجتهاد فيه. وليس يُقْبَل من المهندس أن يطلع على الناس في الهندسة برأي جديد حتى يثبت عند علماء الهندسة أنه قادر على الابتكارِ. بل لا يُقْبَل من رجال القانون الوضعي الذي أخذناه من الغرب في كل فروعه أن يجتهدوا فيه حتى يبلغوا درجة من الحِذْق، يسلم لهم معها بالقُدرة على التشريع. والمهندسون والأطباء والقانونيون بعد ذلك في معظمهم مُقَلِّدُون، يكتفون بتطبيق ما ابتكره المجتهدون في الطب والهندسة والقانون، ولا يزيد اجتهادهم فيها عن الحِذْق والكياسة في تطبيق القواعد النظرية على الوقائع العملية. فالاجتهاد إذن لم يغلق بابه، ولكن المسلمين أحسوا في العصور المتأخرة من أنفسهم عدم القدرة عليه، وأحسوا أن أصول المسائل وفروعها في مختلف احتمالاتها قد فُصِّلَتْ تفصيلاً.

على أنَّ الاجتهادَ في حال افتتاننا بالحضارة الغربية خطرٌ غير مأمون العواقب، يخشى معه أن يتحوَّل من حيث يدري المجتهد – إن وجد – ومن حيث لا يدري، إلى تسويغ للقيم الأجنبية التي هو مُعْجَبٌ بها، فإذا لم يكن معجبًا بها فالمجتمع الذي هو معجبٌ بها لا يقبل اجتهاده، بل لا تزال تتناوله ألسن السفهاء من جُهَّالِه، الذين يتصدَّون لإبداء الرأي فيما يعرفون وفيما يجهلون، حتى يفقدَ ثقته في نفسه ويعتَبِر به غيرُه، فيفتي حين يُستفتَى وعينُه على الذين يفتيهم، يريد أن يرضِيَهم، وأن يظفر بتقديرهم وتقريظهم، فيجور على الحق إرضاءً للخلق، ويذهل عما عند الله تَعَجُّلاً لما عند الناس. ومع ذلك كله، فالاجتهاد الذي يحترم النصوص الشرعية ويبحثها في حَيْدَةٍ ونزاهة شيء، والتطوير الذي يهدف إلى تسويغ قيم الحضارة الغربية شيء آخر. الاجتهاد الذي يتمسك بمبادئ الإسلام يُقَوِّمُ بها عوج الحياة شيء، والتطوير الذي ينزل على الأمر الواقع، ويسوغ عوج الحياة بنصوص الشريعة شيء آخر. نقطة البدء في اجتهاد المجتهد هي هذا السؤال: هل يصح هذا الأمر شرعًا أو لا يصحُّ؟ أو: ما حُكْمُ الإسلام في هذا الأمر؟ ونقطة البدء في تطوير المطوِّر هي: ما النصوص الشرعية التي تُثْبِتُ صحة هذا الأمر؟ أو: ما النصوص الشرعية التي تُثْبِتُ حرمة هذا الأمر؟

وخطر التطوير على الإسلام وعلى المجتمع الإسلامي يأتي من وجهينِ: فهو إفساد للإسلام يشوش قيمَهُ، ومفاهيمَهُ الأصلية بإدخال الزَّيْف على الصحيح، ويُثَبِّتُ الغريب الدخيل، ويُؤَكِّدُه، فبعد أن كان الناس يشاركون في تصاريف الحياة، وهم يعرفون أنَّ هذا الذي غُلِبُوا على أمرهم فيه ليس من الإسلامِ، والأمل قائمٌ في أن تَجِيءَ من بعدُ نهضةٌ صحيحة ترد الأمور إلى نِصَابِها عند الإمكان، يصبح الناس وهم يعتقدونَ أن ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاءَهم مِنْ بعدُ مَنْ يريدُ أن يرُدَّهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه ما يقول، واتَّهموه بالجُمود والتمَسُّك بظاهر النصوص دون روحها.
وتَقْلِيدُ المَغْلُوبِ لِلغالب مرحلةٌ طبيعية طارئة تزول مع زوال الضعف. واختلاط الحق بالباطل والنافع بالضار في هذه المرحلة أمرٌ طبيعي كذلك. وهو مرحلة من مراحل التطور الصحيح، تَجيء بعدها التصفية والتمحيص عندما تزول غواشي الضعف والخمول. فإذا سَوَّغْنَا ذلك الغريب الدخيل – خيره وشره – تَسْويغًا إسلاميًّا في حال الضعف والعجز، فقد أَصَّلْنَاهُ من ناحية، وقد أقْحَمْنَا على الإسلام ما يُفْسِدُ بِنْيَتَه من ناحية أخرى؛ لأنه يُصْبِحُ أخْلاطًا من عناصرَ شَتَّى لا تجمعُها رابطة، ولا يَضُمُّها نظام، ولا يشبِهُ بعضها بعضًا. فهذا هو أحد الوجهَينِ في ضرر التطوير، وهو وجه لا يعني إلا المسلمين.

أمَّا الوجهُ الآخر لضرر التطوير – وهو الذي يعني أعداء الإسلام – فهو أن هذا التطوير ينتهي بالمسلمين إلى الفُرقَة التي لا اجتماع بعدها؛ لأن كل جماعة منهم سوف تذهب في التطوير مذهبًا يخالِفُ غيرها من الجماعات. ومع توالي الأيام، نجد إسلامًا تركيًّا، وإسلامًا هنديًّا، وإسلامًا إيرانيًّا، وإسلامًا عربيًّا؛ بل ربما وجدنا في داخل هذا الإسلام العربي ألوانًا إقليمية تختلف باختلاف البلاد. بل لقد سمعنا مُنْذُ الآنَ أحد المنتسبينَ إلى الإسلام من الهنود يتحدث في (مؤتمر برنستون للثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة) سنة 1953 عن الإسلام الهندي الحديث (ص 78، 81). وسمعنا "سمث" يروي عن أحد المسؤولينَ من التُّرْك في كتابه (Islam In Modern History) كلامًا يتحدث فيه عن إسلام تُركيّ خاص (ص 193).
ملاحظة: العنوان من عندي و الفقرة التي وضعتها من فصل " التصدي لمدرسة العصرنة والتمييع الفقهي المعاصر"

القلب النابض
القلب النابض
مشرف الهواتف والفضائيات

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 1634
نقاط التميز : 3364
الجنس : ذكر
العمر : 25
الأبراج : الجوزاء

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: دعوى تطوير الإسلام و خطر الإجتهاد الأهوج

مُساهمة من طرف New Post الثلاثاء يناير 21, 2020 4:49 am


كل الشكر لكـِ لهذا الموضوع
الله يعطيكـِ العافيه يارب
خالص مودتى

New Post
New Post
مديرة ستار ديس

تاريخ التسجيل : 24/08/2018
المساهمات : 4133
نقاط التميز : 6472
الجنس : انثى
العمر : 24
الأبراج : الميزان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: دعوى تطوير الإسلام و خطر الإجتهاد الأهوج

مُساهمة من طرف جون سينما الخميس يناير 23, 2020 2:58 am


لك مني أجمل التحيات
وكل التوفيق يا رب

جون سينما
جون سينما
عضو نشيط

تاريخ التسجيل : 07/09/2018
المساهمات : 360
نقاط التميز : 427
العمر : 33
الأبراج : القوس

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع

لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان

سجل معنا الان

انضم الينا جروب تاج فعملية التسجيل سهله جدا ؟


تسجيل عضوية جديدة

سجل دخولك

لديك عضوية هنا ؟ سجل دخولك من هنا .


سجل دخولك

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى