عتبات الكلام: السؤال عن السؤال؟

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

عتبات الكلام: السؤال عن السؤال؟

مُساهمة من طرف ‏محمود الريدي السبت يناير 18, 2020 2:49 am


عتبات الكلام: السؤال عن السؤال؟
نصر الدين لعياضي

السؤال باب الاطلاع والمعرفة والصحافيون محترفوه. يستخدمونه لاستقاء الأخبار، ومنه ينطلقون في تحقيقاتهم الصحفية. وبفضله يدركون أن فهم الواقع يتطلب تعددية الرأي. وللسؤال تأثيره السحري على المتلقى، إذ بقدر ما يعلمه فن الاصغاء يحثه على التفكير. لكن بعض المقابلات الصحفية في وسائل الإعلام العربية المكتوبة والمرئية تنسف ما سبق قوله. وأبرز مثال على ذلك نختصره في ما يلي: التقت المغنية اللبنانية ماجدة الرومي ببعض الصحافيين في ندوة صحفية في ربيع 1997 بالجزائر. فخاطبها أحدهم قائلا: لقد غنيت قصائد نزار قباني دون أن تكون لك معرفة مسبقة به كشخص. والأذن تعشق قبل العين أحيانا، كما يقول الشاعر. وتوقف الصحافي ” السائل” عن الكلام. فانتظرت المغنية بقية الجملة. وبعد ان اتعبها الانتظار سألته: أين هو السؤال؟ فكان رده : إنه موجود في الجملة التي ذكرتها! فكم من مرة سمعت، عزيزي القارئ، منشط ندوة صحفية أو مُستَجوَب في برنامج تلفزيوني ينبه محاوره قائلا: أين السؤال؟
فالسؤال عن السؤال يدفعنا إلى الاستفسار عن الغاية من إجراء المقابلات التلفزيونية. ويجرنا إلى مراجعة كتاب الصحافية الأمريكية باربارا وولتز، التي ضمنته عصارة خبرة ستين سنة قضتها في إجراء المقابلات التلفزيونية، والموسوم بـ "كيف تتكلم مع أي شخص عن أي موضوع”؟ بالطبع،إنها لا تقصد مواضيع ” التوك شو” العربية من نوع برنامج ” الحكم”الذي سألت مقدمته ضيفها، الممثل المصري ” هنيدي”، قائلة: هل أنت من الرجال الذين يشخرون في نومهم؟ وعندما أجاب بالنفي، أبدت رغبة شديدة في أن تسمع شخيره على المباشر، فأثارت اندهاشه واندهشنا.
تقول الأديبة العراقية لامية عباس أن سحر العرب القدماء بالسؤال قادهم إلى إدراجه في فن البلاغة لتوكيد الذم أو المدح. وهذا ما نجده في بطون الشعر العربي القديم. لكنها لم تتصور قط ان السؤال في بعض وسائل الإعلام العربية بلغ دَّرْك السماجة الأسفل. وفقد الحد الأدنى من النباهة والخيال التي ميزت السؤال الذي شكل القصة القصيرة جدا، التي كتبها إدواردو غاليانو، بعنوان "النحات والأطفال”. والتي يذكر فيها أن نحاتا مشهورا يشتغل في مرسم شاسع محاطا بالأطفال. وفي أحد الأيام كلفته البلدية بنحت حصان كبير لوضعه في إحدى ساحات المدينة. وأحضرت شاحنة كتلة غرانيت ضخمة إلى المرسم. وشرع النحات في نحته بالمطرقة والأزميل، معتليا سلما. وكان الأطفال ينظرون إليه وهو يعمل. ثم ذهب الأطفال في عطلة، بعضهم إلى الجبال، وبعضهم إلى البحر. وعند عودتهم، أراهم النحات الحصان الذي انتهى من نحته. فسأله أحد الأطفال بعينين مفتوحتين على أشدهما: لكن.. كيف عرفت أن داخل تلك الصخرة يوجد حصان؟
إن استسهال السؤال قد بلغ مداه في وسائل الإعلام العربية إلى درجة أن البعض أصبح يجرى مقابلة صحفية مع أشخاص لم يسمع عنهم من قبل أبدا. ولا يكلف نفسه القراءة عنهم أو لهم. فيستهل حواره مع أحدهم بمقدمة يذكر فيها أن ضيفه شخصية غنية عن التعريف. وأشهر من نار على علم. ثم يفتتح الحوار معه بالسؤال التالي: هل لكم أن تعرفونا بشخصكم الكريم؟ ومن الطرائف التي يذكرها الروائي السوداني أمير تاج السر أنه حل ضيفا على برنامج تلفزيوني. واكتشف أن مقدمته لا تعرفه. فزودها بمقتطف مختصر عن سيرته الذاتية قبل انطلاقة البرنامج. لكنه فوجئ بها تقدمه للجمهور على أنه صاحب مائتي رواية. فعَلَّق على هذا العدد الهائل من الروايات بالقول أنها حمّلته كتابة كل روايات السودان ومثلها في مصر. فلا أحد يكتب مئتي رواية حتى لو كُتب له عمران أو ثلاثة أعمار. فهذه الحقيقة لا تغيب عن بال أي قارى مبتدئ للأدب.
غني عن القول أن وسائل الإعلام تزخر بالكفاءات، بما فيها المغمورة، التي تجيد فن السؤال. هذا الفن الذي يلد من رحم الفلسفة، ويترعرع في ظل التجربة الاجتماعية، وينمو بفضل التحضير والمطالعة، ويرتقى بسرعة البداهة والفطنة. فالروائي غارسيا ماركيز يذكر أن أفضل مقابلة صحفية عبرت خير تعبير عن تجربته بأكثر الأساليب وضوحا هي تلك التي نشرتها صحيفة مغمورة تصدر في كاركاس. فلم تلخص أشد منعطفات حياته تعقيدا في مجال الأدب فحسب، بل في مجال السياسة أيضا. وبرزت ذوقه الشخصي. وأفصحت عن أفراحه وأتراحه. وكانت تختلف عن كل مقابلاته فأفرحته. لقد كانت كاملة في نظره. ولا ينقصها، حسب قوله، سوى أن من مهرتها باسمها الكامل هي امرأة لا يعرفها ولم يلتق بها، بل لم يدل لها بأي حديث صحفي أصلا!

‏محمود الريدي
‏محمود الريدي
عضو جديد

تاريخ التسجيل : 25/08/2018
المساهمات : 78
نقاط التميز : 130
الجنس : ذكر
العمر : 36
الأبراج : السمك

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: عتبات الكلام: السؤال عن السؤال؟

مُساهمة من طرف New Post السبت يناير 18, 2020 11:22 am


كل الشكر لكـِ لهذا الموضوع
الله يعطيكـِ العافيه يارب
خالص مودتى

New Post
New Post
مديرة ستار ديس

تاريخ التسجيل : 24/08/2018
المساهمات : 4133
نقاط التميز : 6472
الجنس : انثى
العمر : 24
الأبراج : الميزان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع

لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان

سجل معنا الان

انضم الينا جروب تاج فعملية التسجيل سهله جدا ؟


تسجيل عضوية جديدة

سجل دخولك

لديك عضوية هنا ؟ سجل دخولك من هنا .


سجل دخولك

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى