عتبات الكلام: نهاية عصر الوساطة؟

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

عتبات الكلام: نهاية عصر الوساطة؟

مُساهمة من طرف long race الخميس يناير 16, 2020 4:16 am


تستمع إلى بعض المثقفين يتحدثون عن مجتمع المعلومات، ولا تفهم شيئا من كلامهم. فتطلب منهم شرح هذا المجتمع. فيجيبونك بالمختصر المفيد إنه المجتمع الذي تحل فيه الوثيقة الإلكترونية محل الورق، وتنتهي فيه الوساطة؛ أي أن الانسان يتواصل مباشرة مع الآلة دون وسيط بشري. بالطبع، لا يمكن لنا أن تتصور هذا المجتمع لأننا تعيش في بيئة تتطلب فيها أي معاملة إدارية رزمة من الأوراق، منها شهادة ميلاد جدك المتوفي لأن الشهادة التي سلمتها من قبل انتهت مدة صلاحية استعمالها الإداري! وتضطر إلى مقابلة أكثر من وسيط؛ أي شخص، وربما تحتاج إلى خدمات أحد معارفك حتى تستطيع أن تقضي حاجتك.
وحتى يقنعون بذلك يجزمون أن عصرنا هذا هو عصر الإنسان الآلي، والآلات الذكية التي تعوض الإنسان. وعصر نهاية المعلم لأن التعليم أصبح إلكترونيا وذاتيا. ونهاية الصحافي لأن جمهور وسائل الإعلام يلجأ مباشرة إلى مصادر الأخبار في شبكة الانترنت لتلبية حاجاته للإعلام دون الاستعانة بالصحيفة أو الإذاعة. ونهاية المكتبيين لأن القارئ يحصل على كتبه عبر الشبكة. والزبون يجرى معاملته البنكية عبر الآلة.
هل هذه الأمثلة كافية لإثبات نهاية الوسيط في المجتمع المعاصر؟ بالفعل، لقد غاب وسطاء لكن ظهر آخرون، والوساطة لم تختف في المجتمعات. وما نشاهده ونقرأه اليوم يؤكد تزايد الوسطاء في الحياة اليومية في العديد من البلدان. فالمحاكم مازالت تشكل لجان الصلح التي تمثل هيئة وساطة، والبنوك تكون لجان وساطة لحل النزاعات القائمة مع الدائنين والزبائن. وبعض الدول تعيّن وسطاء أطلق عليهم مسمى وسطاء الجمهورية لتلقي شكاوى المواطنين من إجحاف مؤسسات الدولة في حقهم أو التهاون في حل مشاكلهم. والوزارات تنشئ لجان الصلح كلما شبّ خلاف أو صراع واحتد في المصانع والمعامل والإدارات. والدول تلجأ إلى التحكيم الدولي حول الأراضي المتنازع عليها. ووسائل الإعلام الحديثة تعيّن وسطاء لدراسة شكاوي جمهورها من تعسفها أو للفت الانتباه لانزياحها عن مهنيتها.
إذا جوهر الوساطة اجتماعي. فعالم الاجتماع الفرنسي ” بيار بورديو” لا يرى الوساطات نقلا إراديا للأفكار لكن كمسار من استنباط المعايير والسلوك الذي يقودنا إلى تبني بعض الممارسات واعتبرها طبيعية. فبدون وساطة لا يمكن أن نميز مجتمع بشري عن كتلة من الأشخاص أو ( غاشي باللهجة الجزائرية). فالحقل الثقافي يتسم بتعدد وسطائه الذين نراهم في الروائي، والشاعر، وناشر الكتب، والمعلم، والمكتبي، والفنان، والمثقف، والصحافي، والدليل السياحي، والمعماري، والرسام، وغيرهم من منتجي المعنى وموزعيها.
أثارت الوساطة في مجال الإعلام والاتصال نقاشا واسعا في العقدين الأخيرين مما أدى إلى توسيع مفهوم ” الميديا”، ودحض الفهم البسيط لدور وسائل الإعلام في المجتمع، والذي أختصر في نقل الواقع. فالوساطة في مجال الإعلام تتنافى ومفهوم الشفافية والحياد.
فوسائل الإعلام التي تقف كوسيط بين الواقع والجمهور تخفي جملة من الحقائق، منها أن وراء كل وسيلة إعلامية توجد سلسلة من الوسطاء الذين يعملون على غربلة الأحداث واختيار الأخبار، وترتيبها حسب أهميتها، و انتقاء الكلمات والصور التي يعتقد أنها تعبر عنها أفضل من غيرها. وعبر هذا المسار من الوساطة، تنتهي وسائل الإعلام إلى ” إعادة إنتاج الواقع” ليشكل ذاكرتنا الجماعية في المستقبل، و” يؤسس” ساحة تتصارع فيها الأفكار والتيارات السياسية والفكرية والتصورات، أو يحتلها الفكر الواحد ويهيّمن. وتُمتّن وسائل الإعلام قواسمنا المشتركة التي تشكل مرجعيتنا في الحكم على الظواهر والأشياء والحياة. وتثري تجربتنا الجماعية بما تملكه من مقدرة على نقلنا إلى العوالم البعيدة عنا جغرافيا وزمنيا.

كان البعض يعتقد أن قوة وساطة وسائل الإعلام تعود لطبيعتها التكنولوجية فقط، لذا اتجهت الآمال إلى السينما حينما تم اختراعها. وراهنت على قدرتها على تقريب الشعوب وتعميق التفاهم بينها لكن الأيام أجهضت هذه الآمال. فتناوبت وسائل الاتصال المتتالية على نقل هذه الآمال وصولا إلى شبكة الانترنت دون أن تجسدها. وانتبه البعض إلى أن مصدر خيبة الآمال يكمن في تضخيم الخصائص التقنية للميديا على حساب المضمون الذي يناسب خصوصيتها. ففي هذا الصدد يؤكد البعض، بكل جد، أن هتلر ما كان له أن يوجد ويلحق المآسي بالعالم لو كان التلفزيون موجودا حينذاك. ويبررون قولهم أن الصورة التلفزيونية التي تظهر الشخص الهستيري تؤلب الرأي العام ضده. فالتلفزيون يحبذ السكينة والسلم والاسترخاء والمرح. فمن يصدق هذا الاعتقاد وهو يرى أن الحروب بكل وحشيتها وقبحها تحولت إلى فرجة واستعراض تلفزيوني نتابعه، بصمت وربما بلامبالاة، ونحن نتناول طعامنا؟

long race
long race
عضو ستارديس

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 1087
نقاط التميز : 2208
الجنس : ذكر
العمر : 26
الأبراج : العقرب

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: عتبات الكلام: نهاية عصر الوساطة؟

مُساهمة من طرف أميرة المنتدى الجمعة يناير 17, 2020 1:55 am


شكرآ جزيلا على الموضوع الرائع و المميز

أميرة المنتدى
أميرة المنتدى
مراقبة الإسلام والأسرة

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 2137
نقاط التميز : 3813
الجنس : انثى
العمر : 23
الأبراج : الميزان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: عتبات الكلام: نهاية عصر الوساطة؟

مُساهمة من طرف New Post السبت يناير 18, 2020 10:08 am


كل الشكر لكـِ لهذا الموضوع
الله يعطيكـِ العافيه يارب
خالص مودتى

New Post
New Post
مديرة ستار ديس

تاريخ التسجيل : 24/08/2018
المساهمات : 4133
نقاط التميز : 6472
الجنس : انثى
العمر : 24
الأبراج : الميزان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: عتبات الكلام: نهاية عصر الوساطة؟

مُساهمة من طرف الإمبراطور الأربعاء يناير 29, 2020 3:47 am


جهود أروع
ننتظر مزيدكم
جزاكم الله خيرا

الإمبراطور
الإمبراطور
مراقب الرياضة العالمية

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 3647
نقاط التميز : 8215
الجنس : ذكر
العمر : 30
الأبراج : الجوزاء

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع

لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان

سجل معنا الان

انضم الينا جروب تاج فعملية التسجيل سهله جدا ؟


تسجيل عضوية جديدة

سجل دخولك

لديك عضوية هنا ؟ سجل دخولك من هنا .


سجل دخولك

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى