ما نسب لابن عبد الوهاب و نفاه عن نفسه في كتبه

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

ما نسب لابن عبد الوهاب و نفاه عن نفسه في كتبه

مُساهمة من طرف IKRaMOne الأربعاء ديسمبر 18, 2019 3:42 am


بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

(المتَّهم بريءٌ حتى تثبُتَ إدانتُه)، هكذا يتَعَامَل العالَم في القَضَايا الجِنائيَّة لحفظِ حقوق الإنسان، فالإنسانُ بريءٌ منَ التُّهمة التي وُجِّهت إليه حتى تثبتَ في حقِّه بالأدلة، أو يعترفَ بنفسه بها وهو كامل الأهليَّة.

ومِن أقوى الدواعي التي تقتضي أن الأصلَ في المُتَّهمِ البراءةُ أن ينفيَ المتَّهمُ عن نفسه التُّهمَة التي لُبِّس بها، فالاعتمادُ أصالةً على كلامِه المباشر، وهذا هو ما دعا إليه القرآن الكريم عندَ التَّعامل مع النَّاس، خاصَّةً حال اتِّهامهِم بشيء، وفي ذلك يقولُ الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وفي قراءة {فَتَثَبَّتُوا}([1]). فالتثبُّت والتبيُّن قيمةٌ إسلاميَّة كُبرى، وهي القيمة التي تمثِّل رأسَ هرم حفظ حُقوق المتَّهم في المحاكم المعاصِرة.

ولئِن كان إلصاقُ التُّهم بالناس أمرًا شنيعًا يعاقِب عليه القانون الدولي المعاصر، فإنَّ إلصاق التُّهم الفكريَّة وتقويلَ الناس ما لم يقولوه هو من الحَيف في القول، ومن الظُّلم والجور الذي نهى الله عنه حتى مع المخالف في الدين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. فالأصل في الإنسان أنَّه يعتقد ما يقوله ويُظهرُه، وإن نفى عقيدةً أو فكرةً عن نفسه فإنَّها تُنفى عنه ما لم يثبتْ خلافُ ذلك بأدلّةٍ صريحةٍ لا تحتمل الجمع مع ظاهرِ كلامه.

تمهيد:

قال الملأ لنبيِّ الله نوح عليه السلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: 60]، فقال: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 61]. وقال الملأ الذين كفروا لنبيِّ الله هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66]، فقال عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 67].

وتمضي تلك السُّنة في اتِّهام الأنبياء والعُلماء والدُّعاة والمُصلحين حتى يومنا هذا، ومن ذلك: الاتَّهاماتُ الكثيرة التي توجَّه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوتِه، فإنه ما فتئَ مناوِئو الدَّعوة يحيكون حوله التُّهم والشنائع من عصره وحتى يومنا هذا، ومن الطرافة والغرابة في آنٍ أنَّ أكثر المسائِل التي اتَّهموه بها قد نفاها عن نفسه نفيًا صريحًا، فمن العجب أن يُكرِّر بعض الناس تُهمًا هو نفاها عن نفسه مرارًا وتكرارًا، فتجده يقول: لم أقلْ بهذا القول، ولا أرضى هذا المذهبَ، وهذا افتراءٌ عليَّ، وهو بهتانٌ عظيم، ثمَّ مع ذلكَ كلِّه يأتي أحدهم فيقول: بل هذا مذهبُه وقوله!

فحريٌّ بأي باحثٍ يريد اتبَاعَ الحقِّ أن يُنصِفَ مخالفيه، ولا يقوِّلهم ما لم يقُولوه، والطَّامة أن بعضَ النَّاس ليسوا فقط يقوِّلون الشيخ ما لم يقله، وإنما يقوِّلونه ما نفاه عن نفسه! والأدهى والأمَرّ أنَّهُم لا يُقدِّمون أيَّ إجاباتٍ حولَ النُّصوص الصريحة من الشيخ حول نفي التُّهمة عن نفسه. وهذا لا يعني أنَّ كلَّ مَن نفى عن نفسه شيئًا انتفَى عنه مهما كانت الأدلّة المثبِتَة؛ ولكن هذا النفي يجعلنا نتوقَّف كثيرًا قبلَ أن نتَّهم الشيخَ أو غيره بأيِّ تهمةٍ نفاها عن نفسه؛ لأن نفيَه لها نفيٌ صريح واضح.

وفي هذه الورقةِ سنذكرُ -بإذن الله تعالى- المسائلَ التي نفاهَا الإمام محمد بن عبد الوهاب عن نفسه، فنبين المسألةَ باختصار، ونذكر نفيَه لها، وليس غرضُنا من هذه الورقة تأصيلَ مذهب الشيخ في هذه المسائل، فإن هذا يطول، وربَّما تُناقش في أوراق أخرى؛ ولكن غرضنا حصر هذه المسائل، وبيانُ نفي الشيخ لها، وفي القسم الأول من هذه الورقة نستعرضُ مسائل التكفير التي نفاها عن نفسه، على أن نلحقَ بها القسم الثاني وفيه مسائلُ أخرى، فنقولُ وبالله التَّوفيق:

مسألَةُ التَّكفير هي واحدةٌ من أكبرِ المسائل التي أُثير حولها جدلٌ كبيرٌ في الماضي والحاضِر، ولا زالَ النِّقاشُ فيها محتدمًا بين سائر الطَّوائف الإسلامية، ولا زالت الحروب فيها تدور رحاها، والمطارحات العلمية تملأ الكتبَ والمنتدياتِ والمواقع، وهذه المسألة عظيمةٌ خطيرةٌ؛ لما يترتَّب عليها من آثار وخيمة على المجتمَع المسلم، فإنه بسبب الخطأ فيها تُزهق الأنفس، وتُراق الدماء، وتُنتهك الأعراض، وتستحلُّ الأموال، وموقف أهل السنة والجماعة موقفٌ واضح وصريح في عدم نفي التكفير مطلقًا أو تبنِّيه مطلقًا، فإن مثل هذه المسائل الكبرى لا يمكن أن تُختزَل في موقفٍ واحد أو أصلٍ واحد، بل يجب تفكيكه إلى جزئيات لمعرفة الصحيح والباطل منها، وهذا ما فعله أهل السنة والجماعة.

والشَّيخ محمد بن عبد الوهاب أحد أشهر من رُميَ بالتَّكفير في القرون الثلاثة الأخيرة، بل يعدُّه البعض إمامَ الغلاة في التكفير في العصر الحاضر! وأنَّ كل الفرق الغالية في التكفير ما هي إلا امتدادٌ لما أصَّله الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقرره! وأن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي الأرضيَّة الصلبة لكل هذه التيارات الغالية في التكفير!

وقد تنوَّعت تلك التُّهم التي رمي بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيما يتعلَّق بالتكفير، فقد رميَ بتكفير عموم المسلمين، ورمي بالتكفير بالكبائر، ورُميَ بالتَّكفير بالظَّن، وبعدم الهجرة إليه، وغيرها من المسائِل التي سنبحثها في هذه الورقة.

وهذا الاتهام نشأ من أيَّام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو مستمرٌّ إلى يومنا هذا، ولو ذهبنا نحصر أقوالَ الخصومِ لملأنا كُتبًا، فإنهم ما يفتؤون يتَّهمون الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كلِّ وقت، لكن على سبيل المثال نذكر منهم عثمان بن منصور في كتابه: "جلاء الغمَّة عن تكفير هذه الأمَّة”، قال فيه: "قد ابتلى الله أهلَ نجد -بل جزيرة العرب- بمن خرَجَ عليهم، ولم يتخرَّج على العُلماء الأُمناء، كما صحَّ عندنا وثبت عن مشايخنا الأمجاد النقَّاد، وسعى بالتَّكفير للأمة خاصِّها وعامِّها، وقاتلها على ذلك جملةً إلا من وافقه على قوله، لمَّا وجد من يعينه على ذلك بجهله”([2]).

وقد ردَّ افتراءاته الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ في كتابه: "مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام”.

ومنهم الزهاوي في كتابه: "الفجر الصادق في الردِّ على الفرقة الوهابية المارقة”، قال: "قد سولت له نفسه [يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب] أن يبتدع دينًا جديدًا ينالُ به الرياسة؛ ولكنَّه لما أنَّ ذلك لا يتم له… ابتدع ما ابتدعه في نفس الدين الإسلامي، وحيث رأى أن الأمر لا يتم له إلا بعد تكفير جميع المسلمين بشبهٍ قرآنية… جعلَ المُوحِّدين جميعهم مشركين بسبب تلك الأمور”([3])، ويقول محمد جواد مغنية: "يرى الوهابيون أن جميع المسلمين غيرَهم قد فسَّروا التوحيد تفسيرًا خاطئًا، وفهموه فهمًا لا ينطبق على الواقع، ولا يُخرجه عن حقيقة الشِّرك… إذن جميع المسلمين مشركون من حيث لا يريدون ولا يشعرون”([4])، ويقول محسن الأمين: "والحاصلُ أنَّ حكم الوهابيين بكفر جميع المسلمين وشركهم هو أساسُ مذهَبِهِم، ومحوره الذي يدور عليه لا يتحاشون منه… وقد أطلَق محمد بن عبد الوهاب في رسالة كشف الشبهات اسم الشِّرك والمشركين على عامَّة المسلمين عدا الوهابيين”([5]). فالحاصل أنَّ رمي الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالتَّكفير أمرٌ شائعٌ كثيرٌ في كتاباتِ المناوئين، والأمَرُّ من ذلك نسبة الفرق الغلاةِ إليه وإلى دَعوتِه ([6]).

وسنتنَاولُ هذا الموضوع بالبحث والتَّنقيب من خلال كلام الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب، فإنَّ أصدق من يعبِّر عن مذهبٍ ما هو صاحبُ المذهب، ومتى ما وقفنا على نُصوصِه لا يجوز لنا أن نتجاوَزَها إلى غيرِها حتى نُحقِّقها ونعرف مرادَه منها، وأصول المسائل التي اتُّهِم بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير هي:

1- التَّكفير بالعموم:

وتكاد تكون هذه المسألة هي أظهر مسألة في موضوع التكفير، وأشنعُ تهمةٍ يردِّدها جلُّ المناوئين إن لم يكن كلّهم، وقد سبق قريبًا قولُ محسن الأمين: "والحاصل أن حكم الوهَّابيِّين بكفر جميع المسلمين…”([7])، وهي مسألةٌ نفاها الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب عن نفسِه مرارًا وبطرقٍ عديدة، يقولُ رحمه الله: "إن قالَ قائلُهم: إنَّهم يكفرون بالعموم، فنقول: سبحانك هذا بهتانٌ عظيم، الذي نكفِّر: الذي يشهد أنَّ التوحيدَ دين الله، ودين رسوله، وأن دعوةَ غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفِّر أهلَ التوحيد، ويسمِّيهم الخوارج، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد، ولكن نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرينا الحقَّ حقًّا، ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا، ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضلّ”([8])، فهو في هذا النَّص ينفي أن يكون يكفِّر عموم المسلمين، ويبيِّن الذين يرى الشيخ كفرهم، ويذكرُ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في موضعٍ آخر فيقول: "وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم: إنَّا نكفر بالعموم”([9])، ويقولُ رحمه الله: "من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: ما ذكر لكم عني: أني أكفر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء”([10])، وحين وصلته رسالةٌ منَ الأحسَاء فيها بعض هذه التُّهم بينها الشيخ ورد عليها فقال: "وقوله: ما هنا مسلم حقيقيّ إلا أنت وكم نفر من الذي تشتهي، فأقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! اللهم إني أعوذ بك من بهتانِ أهل البهتان، وظلم أهل الظلم والعدوان، لا ريبَ أن الأمة لا تخلو من المسلمين، في كل زمان إلى أن تقوم الساعة، وفي القرون الثلاثة المفضلة، المسلمون قد ملؤوا الأمصار، في المشارق والمغارب، والحجاز واليمن”([11]).

وقد ذكر السببَ الباعث لإذكاء نار هذه التّهمة فقال: "وأما القول: أنَّا نكفر بالعموم، فذلك من بهتان الأعداء، الذين يصدّون به عن هذا الدِّين، ونقول: سُبحانَكَ هذا بُهتانٌ عَظِيم"([12]). وتلكَ الغاية تقرؤها بين سطور كل من ينسب هذهِ التُّهمة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المعاصرين.

فهذه النُّصوص الكثيرة في المسألة صريحةٌ صحيحةٌ لا يمكن إنكارُها، أو تأويلُها، أو تغييرُ معانيها، أو القول بأنَّ مرادَه منها غير ما فَهِمْنا، فهو يكرِّر مرارًا بأنَّ هذا ليس مذهبَه، بل هي تهمة مختَلَقةٌ لصدِّ النَّاس عن دعوتِه، ومع ذلك ينشط الكتَّاب والمشنِّعون في تدوير هذه التُّهمة وتكرارها، ومن يريدُ تحقيق هذه المسألة علميًّا يجب عليه أن يأخذ هذه النصوص ويدرسها، ولا يصح له القفز عليها ليصل إلى استنتاجه بمتَشابهٍ من القول أو الفعل.

بل يرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنَّ تكفير عمومِ المسلمين أمرٌ لا يقبله عقل، يقول رحمه الله: "وأجلبوا علينا بخيلِ الشَّيطان ورجله، منها: إشاعَةُ البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيَه فضلًا عن أن يفتريَه، ومنها ما ذكرتم: أني أكفِّر جميع الناس إلا من اتَّبعني، وأزعم أنَّ أنكحتَهم غير صحيحة، ويا عجبًا! كيف يدخل هذا في عقلِ عاقِل؟! هل يقول هذا مسلمٌ أو كافِر أو عارفٌ أو مجنون؟!”([13]). فكيفَ يدَّعي الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب أنَّ هذا المذهب لا يقولُ به عاقل، ثم يأتي ويناقِضُ قولَه هذا؟!

وممَّا يدُلُّ على عدم تكفيرِهِ بالعموم: أنَّه حين تحدَّث عن المسائل التي يُكفِّر بِهَا قال: "وأمَّا التكفير فأنا أكفِّرُ من عرف دينَ الرَّسول، ثم بعد ما عرفه سبَّه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر”. ثم قال في عبارة صريحة تبيِّن أن من يكفِّرهم قلَّة من الناس: "وأكثرُ الأمة -ولله الحمد- ليسوا كذلك”([14]).

وممَّا يدلُّ كذلك على عدمِ إنصَافِ من يرمِيه بتَكفيرِ عمومِ المسلمِين: أنَّهم لا يعرِّجون على قضيَّة تكفير المعيَّن عند الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب، وإن كانوا يذكرونَها فإنهم يتعامون عن الارتباط الوثيق بين مسألةِ التَّكفير بالعموم وتكفير المعين، فإنَّ تكفير المعيَّن يقتضي بالضرورة عدم تكفير عموم النَّاس، ومن يقرأ كتب الشيخ يرى أنَّه كفَّر أناسًا معيَّنين بعد أن راسلهم وبيَّن لهم الحجة، ثم رأى أن الحجَّة قد قامت عليهم، فإذا كان قد كفَّر أشخاصًا محدَّدين فكيف نقول في نفس الوقت: إنه يكفِّر جميع الناس؟!

وإذا كان الشيخ ممَّن يكفر بالعموم فلماذا يؤصل الشيخ لقضية قيام الحجة وقضية تكفير المعين؛ إذ أيُّ معيَّن هنا إنْ كفر الشيخ عموم الناس؟!

2- تكفيرُ الجاهل:

إحدى المسائل الكبرى التي اتُّهم بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضًا: مسألة عدم إعذار الجاهل، وبناءً عليه فإنهم يرون أنه يُكفِّر كل من أتى بعملٍ كُفريٍّ ولو كان جاهلًا، وفي الحقيقة هذه المسألة أشدُّ من المسألة الأولى من حيث الاضطراب فيها، فقد اختلفَ النَّاس فيها اختلافًا كبيرًا نظرًا لنصوص عديدة من الشَّيخ هي صريحة في الإعذار بالجَهل، ونصوصٍ أخرى توهم أنَّه لا يعذر بالجهل، فتمسَّك بهذه طائفة وبتلك أخرى، ومن يجمَع نصوص الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتمعَّن فيها يُدرك أنَّه يقول فيها بالتَّفصيل مستندًا إلى الكِتاب والسنة، فهو يعذر بالجهل في سائرِ المسائل إلا المسائل الظاهرة، وحتى هذه المسائل الظاهرة لا يحكم فيها بالنَّظر إليها فقط، بل بالنَّظر إلى الواقع فيها أيضًا، فالأصل عندَهُ هو الإعذار بالجهل، أمَّا الاستثناء فهو في قوم يرى الشيخ أن الحجة قد قامَت عليهم، والذي يهمُّنا إيراده هنا هُو أنَّه كانَ ينفي عن نفسه عدم الإعذار بالجهل، أو أنَّه يكفِّر الجاهل الذي لم تقم عليهِ الحجَّة، فيقول رحمه الله: "وأما ما ذكر الأعداء عنِّي أني أُكَفِّر بالظَّن وبالموالاة، أو أكفِّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتانٌ عظيم، يريدون به تنفيرَ الناس عن دين الله ورسوله”([15]).

فتكفير المعيَّن عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب مرتبطٌ بقيام الحجة؛ ولذلك قلنا: إنَّ المسائل الظاهرة لا يكفِّر فيها الشيخ بمجرد الوقوع فيها، بل ينظر إلى حال الواقع فيها، كما في مسألةٍ من مسائِل الدين الكبرى كعبادة الصَّنم إذا كانت من جاهل، يقولُ رحمه الله: "أمَّا الكذبُ والبُهتَان فمثل قولهم: إنَّا نكفّر بالعموم، ونوجِبُ الهجرة إلينا على من قدر على إظهارِ دينه، وإنَّا نكفر من لم يكفِّر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدّون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنّا لا نكفّر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبِّههم، فكيف نكفّر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل؟! سُبحانَكَ هذا بُهتانٌ عَظِيم"([16]).

وهذا نصٌّ صريح في أنه يَعذُر بالجهل حتى في مسائل القبور وعبادة أصحابها، فإذا كان الشيخ ينفي عن نفسه أنَّه يكفِّر الجاهل، فإن هذا محكم صريح من قوله، ويجبُ ردُّ النصوص الموهِمة إليه، ولا يصحّ لأحد أن يكذِّب قولَه الصريح.

وليس مرادُنا في هذه الورقة بيانَ قوله والتفصيل في ذلك، وإنما الوقوف على نفيِه الصريح لهذه التهمة عن نفسه، ولتفصيل القول في مسألة العذر بالجهل مقام آخر إن شاء الله.

3- تكفير من لم يدخُل تحتَ طاعتِه ولم يهاجِر إليه:

من المسائل التي اتُّهم بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنَّه يُكفِّر من لا يدخل تحتَ طاعتِه، ويكفِّر من لم يهاجِر إليه، وهذهِ القضيَّة قد شاعت ولَبَّس بعضُ النَّاس بها على المسلمين حتى التبسَ على الشوكاني رحمه الله بعد أن كان يمدح هذه الدعوة فقد قال: "ولكنَّهم يرونَ أنَّ من لم يكن داخلًا تحت دولة صاحب نجد وممتثلًا لأوامره خارجٌ عن الإسلام”([17])، إلا أنَّ الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب ينفي ذلك عن نفسه فيقولُ في رسالةٍ له: "من محمَّد بن عبد الوهاب إلى من يصلُ إليه من المُسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: ما ذكر لكم عنِّي: أني أكفر بالعموم، فهذا من بهتانِ الأعداء، وكذلك قولهم: إنِّي أقول من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنَّه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضًا من البهتان؛ إنما المراد اتباع دين الله ورسوله، في أي أرضٍ كانت”([18]).

ويربط الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين هذه المسألة ومسألة قيام الحجة، فإنَّه إن كان لا يكفِّر من لم تقم عليه الحجَّة وهو متلبس بأعمال كفرية، فإنَّه من باب أولى لا يكفِّر من لم يتلبَّس بتلك الأعمال لكنَّه لم يُهاجر! يقولُ رحمه الله: "وإذا كنَّا لا نكفِّر من عبدَ الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفِّر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل؟! سُبحانَكَ هذا بُهتانٌ عَظِيم"([19]).

وأيُّ نصٍّ أصرح من أن يقول الشيخ رحمه الله: إن المسلم هو من اتَّبع دين الله ورسوله في أي زمانٍ ومكان؟! يقول رحمه الله: "وكذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبد الوهَّاب يقول: الذي ما يدخُل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! بل نشهِد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمِل بالتوحيد، وتبرَّأ من الشِّرك وأهله، فهُو المسلم في أي زمان وأيِّ مكان”([20])، ويقول أيضا رحمه الله: "وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفِّر، ومن لم يقاتِل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدُّون به الناس عن دين الله ورسوله”([21]).

ويتبيَّن من خلال تصريحاتِ الشَّيخ نفسه أنَّه لا يكفِّر من لم يهاجر إليه، وإنما يرى أن المسلم هو من اتبع دين الله ورسوله في أي مكان كان. ومن الغريب أنَّ المشنِّعين يقفزون على كلِّ هذه النُّصوص ليقرِّروا نيابةً عن الشيخ بأنه يكفِّر من لم يهاجر إليه!

IKRaMOne
IKRaMOne
عضو ستارديس

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 1290
نقاط التميز : 2098
الجنس : انثى
العمر : 33
الأبراج : الاسد

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: ما نسب لابن عبد الوهاب و نفاه عن نفسه في كتبه

مُساهمة من طرف New Post الأربعاء ديسمبر 18, 2019 11:26 pm


بارك الله فيك واحسن اليك ان شاء الله

New Post
New Post
مديرة ستار ديس

تاريخ التسجيل : 24/08/2018
المساهمات : 4133
نقاط التميز : 6472
الجنس : انثى
العمر : 24
الأبراج : الميزان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: ما نسب لابن عبد الوهاب و نفاه عن نفسه في كتبه

مُساهمة من طرف MarYam الجمعة ديسمبر 27, 2019 6:16 am


معلومات رائع ومواضيع مميز وابداع التي قدمتها لنا
وتسلم الايادي التي ابداعت في هذا المشاركة
اتمنى لك التوفيق ولا تحرمنا من ابداعاتك وتميزك المتواصل


MarYam
MarYam
عضو ستارديس

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 1419
نقاط التميز : 2107
الجنس : انثى
العمر : 36
الأبراج : الميزان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع

لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان

سجل معنا الان

انضم الينا جروب تاج فعملية التسجيل سهله جدا ؟


تسجيل عضوية جديدة

سجل دخولك

لديك عضوية هنا ؟ سجل دخولك من هنا .


سجل دخولك

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى