لكل زمان فرعون
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
لكل زمان فرعون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد:
-----------------------
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
-------------------------
ملخص الخطبة
1- فرعون مثل صارخ للطاغية المتجبر. 2- عرض أهم المعالم المستنتجة من قصة فرعون الطاغية: الحكم بغير ما أنزل الله، الافتخار بالمال والعتاد. إنكار الغيبيات. التكذيب بآيات الله ومعاداة الرسل والدعاة إلى الله. التنكيل بالمعارضين والبطش بالدعاة إلى الله.
-------------------------
الخطبة الأولى
معاشر المسلمين، الطغيان آفة من الآفات التي تنزل بالأقوام والشعوب فتدمر كيانها وتهلك أهلها وتأتي على الأخضر واليابس فيها، وحين يزداد الطغيان بين الناس وتستشري شروره ثم يركن الناس إلى الطغاة ويستمرئون الخضوع والاستكانة لمظالمهم وطغيانهم يعمهم الله بالعذاب ويحاسبهم على ذلك محاسبته للطغاة أنفسهم.
ولقد كان فرعون مثلا صارخا للطاغية المتجبر،
وكان قومه صورة للأقوام التي خضعت وتابعت الطاغية،
ووصل الأمر بفرعون إلى ادعاء الألوهية والاستخفاف بعقول الناس والإعراض عن كل الآيات التي جاءته من الله حتى أهلكه الله وقومه.
ووردت قصة فرعون في سبع وعشرين سورة،
فضلا عن الإشارة إليها في ثنايا بعض السور الأخرى وعرضتها الآيات مفصلة ومقتضبة، وعرضت صورا لطغيان فرعون وضلالاته وبغيه وكفره.
وأمر فرعون مثل لكل طاغية يتجاوز الحد في الظلم والتجبر والاستبداد والمعصية والاستخفاف بعقول الناس وإرادتهم ومصالحهم،
وكلما أنس منهم السكوت على ظلمه والخضوع لبغيه وعدوانه ازداد صلفا وتجبرا وتمردا، حتى يصل إلى التأله وادعاء الإرادة المطلقة في مصائر الناس من حوله.
ولكي نبين ملامح الطغاة التي لا تتغير في مضمونها ونتذكر بعض صور طغيانهم ووسائلهم والتي تتشابه في مآلاتها نستعرض اليوم عددا من الأمور التي نستخلصها من الآيات الكريمة التي وردت في معرض الحديث عن فرعون وقومه،
ذلك الطاغية الذي تجاوز الحد في الكفر والتأله والتجبر على عباد الله لأجل مصالحه الشخصية كما يفعل الطغاة في كل زمان.
لقد أراد الله لفرعون أن يكون درسا بليغا للطغاة، فأبقى بدنه ليكون لمن خلفه آية وعبرة، وعدد الأساليب في عرض قصته،
لكي تتذكر الأمم المستضعفة في كل زمان أن مصير الطغاة واحد، وأن عاقبتهم مخزية،
وأن الله يمهل لهم وقتا ثم يأخذهم أخذا ويصرعهم صرعا، ليكون حال هلاكهم مناقضا لحال حياتهم، إنها نهاية شافية كافية للمستضعفين،
يوم أن يلقي الله فرعون جثة هامدة على شاطئ البحر مع أوساخه ونفاياته، قد امتلأ بطنه من نفاياته، وانسد فمه من وحله، بعد أن كان يذبح الأبناء ويستحيي النساء،
بعد أن كان يقول: أنا ربكم الأعلى،
بعد أن كان يقول: ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.
أيها المسلمون، إن الطغيان ليس قصة ماضية ولكنه حقيقة باقية،
والوقوف عند قصص طغاة الأمس يعطي معالم لطغيان اليوم ويفيد في دراسة الصور المشابهة في كل عصر ومصر مهما اختلفت الألوان وتغيرت العناوين والشعارات؛
وذلك لأن الله جل وعلا لم يقص على عباده المؤمنين إلا لكي يتعظوا ويعتبروا ويتدبروا أمرهم فلا يقعوا فيما وقع فيه الأقوام، وحتى لا ينالهم من الله العذاب:
كذالك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد اتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [طه:99، 100]،
لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب [يوسف:111].
أيها المسلمون، ومن خلال استعراض الآيات القرآنية،
تتضح معالم المنهج الفرعوني في الطغيان وهي كثيرة ومتعددة من أهمها:
أنه يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل
ويجعل من نفسه معبودا من دون الله عز وجل
يتحكم في الناس، ويأمرهم أن يطيعوه،
ويشرع لهم ما يراه متفقا مع أهوائه ومصلحته،
ويدعي أنه الخير لهم والبركة عليهم،
وأنه يريد لهم الصلاح وغيره يريد الفساد،
وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الأرض الفساد [غافر:26]،
وقال فرعون ياأيها الملا ما علمت لكم من اله غيرى فأوقد لى ياهامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى اله موسى وإنى لاظنه من الكاذبين [القصص:38].
فرعون الطاغية أتى إلى قومه بصورة الناصح المشفق عليهم من تبديل دينهم وإظهار الفساد عليهم، وطريقته في علاج هذه المشكلة طريقة رائعة، ولا يدرك روعتها إلا الطغاة من أمثاله، وهي أن يقتل موسى، وأن يقتل أبناء الذين آمنوا معه ويستحيي نساءهم،
إنها طريقة تدل على صدق معهم وإخلاص لهم وشفقة عليهم،
إنها الطريقة التي سار عليها تلاميذ مدرسة الطغاة من بعده،
نريد أن نحرركم من الظلم ونخرجكم إلى عالم من الحرية لم تكونوا تحلمون به،
وطريقتنا في ذلك هي أن نأتي بمئات الآلاف من الجنود وبأطنان الأسلحة وأنواع العتاد ثم نقصفكم حتى الموت، ونملأ بلادكم بالأمراض والأسقام، ونجرب عليكم أنواع الأسلحة الجديدة، وهذا شرف لكم أن جربنا عليكم أسلحة جديدة،
أو طريقة أخرى هي أن تهربوا لدول مجاورة
لتعيشوا حياة كريمة مغتربين في خيام اللاجئين ومنة المتبرعين.
أيها المسلمون،
ومن أبرز معالم الطاغية أنه يفتخر بما يملك من مال أو قوة أو ملك أو تقدم مادي،
وينسى مصدر ذلك كله،
وينسبها لنفسه معتمدا على حب الناس لمتاع الدنيا،
ولذلك افتخر فرعون بأنه يملك الأرض الخضراء ولديه الماء والأنهار والسلطان:
ونادى فرعون فى قومه قال ياقوم أليس لى ملك مصر وهاذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون [الزخرف:51]،
وهذا الادعاء ناتج عن الغرور بما أعطاه الله من الملك والمال والقوة والنعيم والحاشية والأتباع،
ولكن ذلك مقترن أيضا بخضوع الناس للطاغية وسكوتهم عن مظالمه وخوفهم من سطوته وجبروته وانكبابهم على الأمور المادية والمنافع الدنيوية ونسيانهم لآخرتهم،
مما يجعلهم مستعبدين للظالم وأتباعا للطاغية كما فعل أتباع فرعون وقومه.
وعندما أراد أن يقنع قومه بأنه المعبود لهم من دون الله وأن دعوة موسى عليه السلام لا تنفعهم ولا تفيدهم استخدم هذا الأمر الذي يملك أفئدتهم ويسد عليهم طريق الهدى
فقال: فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملئكة مقترنين [الزخرف:53]،
والناس المضللون الذين استعبدهم الطغاة وأذلوهم حتى أفسدوا فطرهم يستجيبون لمثل هذه المغريات ويذعنون لحواسهم القاصرة وينكرون ما لا تصل إليه حواسهم ويعطلون عقولهم.
أيها المسلمون، ومن معالم الطغاة ثالثا أنهم ينكرون الغيبيات ويعادونها؛
لأن ذلك يتعارض مع ما يريدون؛
وقال فرعون ياأيها الملا ما علمت لكم من اله غيرى فأوقد لى ياهامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى اله موسى وإنى لاظنه من الكاذبين [القصص:38].
يخاف الطغاة من إيمان الناس بالغيب؛ لأنه يحررهم من أسر العبودية لجبروت الظالمين، ويفسح أمامهم النظر في ملكوت الله عز وجل، فيعرفون أن هناك مالكا قديرا،
وأن هؤلاء الطغاة بشر مخلوقون مثلهم انحرفوا عن شرع الله وتجبروا وظلموا،
وأنهم سوف يمضون بعد حين ليواجهوا مصير العذاب؛
لأن الله وحده يملك المصير ويملك الموت والحياة،
إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب
[آل عمران:10، 11].
ومن معالم الطغاة التكذيب بآيات الله ومعاداة الرسل والدعاة
والتنكيل بهم ورميهم بشتى التهم والأباطيل
حتى ولو كانت الدعوة قد جاءتهم بالوسيلة اللينة والخطاب الشفوق؛
لأن المتجبر لا يصغي لغير نفسه،
ولا يفهم في لغة الحوار إلا حبال المشانق وسياط الجلادين.
ها هو موسى و هارون عليهما السلام يخاطبان فرعون بالخطاب اللين الرشيد، ولكنه تجبر وتكبر وأرعد وأزبد وقال: لئن اتخذت الها غيرى لاجعلنك من المسجونين [الشعراء:29]، ولكن موسى لم يخف هذا التهديد، بل قدم لفرعون الآية تلو الآية لعله يخشى ويعود إلى الحق، فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين ونزع يده فإذا هى بيضاء للناظرين [الشعراء:32، 33]، وظلت الآيات تترى واحدة إثر أخرى والطاغية لا يستمع ولا يرعوي
حتى أهلكه الله وقومه الظالمين،
ونجى موسى وقومه المؤمنين.
وظلت هذه العنجهية هي لغة الطغاة في الحوار والجدال،
وطغاة اليوم في هذا كطغاة الأمس، لم يفارقوا هذه اللغة المحببة إليهم في الحوار،
فلا مجال عندهم للجدال بالحسنى،
وإنما على متن المقاتلات ورؤوس المدرعات،
وما قالوه هو الصحيح لأنه قولهم، وليس لأنه صحيح،
ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [غافر:29].
أيها المسلمون،
ومن معالم الطغاة أنهم يلجؤون إلى التنكيل الظالم بالمعارضين والبطش بالدعاة إلى الله،
ولا يمنعهم شيء من ارتكاب كل جريمة مهما بدت منافية للخلق والمنطق،
ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال [غافر:23، 25].
أيها المسلمون،
ولكل طاغية أعوان،
منهم من يعين بالرأي للتضليل والإفساد وتزيين الباطل للناس وإنفاذ رغبات الطاغية مثل هامان،
ومنهم من يعين بالمال كقارون،
إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين [القصص:8]،
ومع هذا الوزير الطاغية أيضا حشد من الجنود والأعوان والأتباع التي تنكل بالناس وترصد حركاتهم وتبطش بهم وتتعالى على الناس بما لديها من قوة وسلاح وسلطان،
واستكبر هو وجنوده فى الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون [القصص:39]،
ولكن الله لهؤلاء بالمرصاد؛ للطاغية وأعوانه ولكل من يشايعه ويخضع له،
فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين [القصص:40-42].
وهكذا يكون مصير الطغاة، لهم يوم موعود ومصرع مشهود.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا عباد الله، وبعد هذا العرض السريع للطاغية والطغاة ممثلا بفرعون وقومه
يتبين لنا أن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية
حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد من دون الله،
وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلا أيام كانت عبوديتهم لله وحده
عقيدة وعبادة وشريعة،
وما تحرر الناس قط إلا في ظلال ربوبيته الواحدة.
إن نسيان ذلك من الناس يضللهم في الحياة فيجعلهم أشياعا للباطل وجنودا للطغاة الظالمين الذين لا يكفون عن تسخيرهم لغير ما أراد الله وامتلاك إرادتهم وقلوبهم وعقولهم.
إن أصناف الطغيان كثيرة وأنواع الطغاة متعددة،
فإذا كان بالأمس فرعون ففي الحياة كثير من أصناف الفراعنة،
وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون فقد كان في تصرفه هذا أقل طغيانا من طواغيت كثيرة في القرن العشرين في مواجهة العالم الإسلامي ومواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين وتهديد لسلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة.
فهل يستيقظ الناس وهم يعيشون محنة من أقسى ما عرف العالم الإسلامي من المحن، ويمرون في ثنايا فتنة كبيرة
نسأل الله عز وجل أن يجعلها نصرا للحق والإسلام والمسلمين؟!
وكل ذلك بفعل الطغيان وتصرفات الطغاة.
نسأل الله أن يقصم ظهور طغاة اليوم كما قصم ظهور أسلافهم،
وأن يشفي صدور المسلمين منهم كما شفى صدور المؤمنين بنهاية فرعون البئيسة.
اللهم أرنا فيهم يوما أسود أسوأ من يوم فرعون وهامان وأبي بن خلف.
اللهم أرنا فيهم بطشك الشديد، وأخذك القوي، واشف صدور قوم مؤمنين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد:
-----------------------
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
-------------------------
ملخص الخطبة
1- فرعون مثل صارخ للطاغية المتجبر. 2- عرض أهم المعالم المستنتجة من قصة فرعون الطاغية: الحكم بغير ما أنزل الله، الافتخار بالمال والعتاد. إنكار الغيبيات. التكذيب بآيات الله ومعاداة الرسل والدعاة إلى الله. التنكيل بالمعارضين والبطش بالدعاة إلى الله.
-------------------------
الخطبة الأولى
معاشر المسلمين، الطغيان آفة من الآفات التي تنزل بالأقوام والشعوب فتدمر كيانها وتهلك أهلها وتأتي على الأخضر واليابس فيها، وحين يزداد الطغيان بين الناس وتستشري شروره ثم يركن الناس إلى الطغاة ويستمرئون الخضوع والاستكانة لمظالمهم وطغيانهم يعمهم الله بالعذاب ويحاسبهم على ذلك محاسبته للطغاة أنفسهم.
ولقد كان فرعون مثلا صارخا للطاغية المتجبر،
وكان قومه صورة للأقوام التي خضعت وتابعت الطاغية،
ووصل الأمر بفرعون إلى ادعاء الألوهية والاستخفاف بعقول الناس والإعراض عن كل الآيات التي جاءته من الله حتى أهلكه الله وقومه.
ووردت قصة فرعون في سبع وعشرين سورة،
فضلا عن الإشارة إليها في ثنايا بعض السور الأخرى وعرضتها الآيات مفصلة ومقتضبة، وعرضت صورا لطغيان فرعون وضلالاته وبغيه وكفره.
وأمر فرعون مثل لكل طاغية يتجاوز الحد في الظلم والتجبر والاستبداد والمعصية والاستخفاف بعقول الناس وإرادتهم ومصالحهم،
وكلما أنس منهم السكوت على ظلمه والخضوع لبغيه وعدوانه ازداد صلفا وتجبرا وتمردا، حتى يصل إلى التأله وادعاء الإرادة المطلقة في مصائر الناس من حوله.
ولكي نبين ملامح الطغاة التي لا تتغير في مضمونها ونتذكر بعض صور طغيانهم ووسائلهم والتي تتشابه في مآلاتها نستعرض اليوم عددا من الأمور التي نستخلصها من الآيات الكريمة التي وردت في معرض الحديث عن فرعون وقومه،
ذلك الطاغية الذي تجاوز الحد في الكفر والتأله والتجبر على عباد الله لأجل مصالحه الشخصية كما يفعل الطغاة في كل زمان.
لقد أراد الله لفرعون أن يكون درسا بليغا للطغاة، فأبقى بدنه ليكون لمن خلفه آية وعبرة، وعدد الأساليب في عرض قصته،
لكي تتذكر الأمم المستضعفة في كل زمان أن مصير الطغاة واحد، وأن عاقبتهم مخزية،
وأن الله يمهل لهم وقتا ثم يأخذهم أخذا ويصرعهم صرعا، ليكون حال هلاكهم مناقضا لحال حياتهم، إنها نهاية شافية كافية للمستضعفين،
يوم أن يلقي الله فرعون جثة هامدة على شاطئ البحر مع أوساخه ونفاياته، قد امتلأ بطنه من نفاياته، وانسد فمه من وحله، بعد أن كان يذبح الأبناء ويستحيي النساء،
بعد أن كان يقول: أنا ربكم الأعلى،
بعد أن كان يقول: ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.
أيها المسلمون، إن الطغيان ليس قصة ماضية ولكنه حقيقة باقية،
والوقوف عند قصص طغاة الأمس يعطي معالم لطغيان اليوم ويفيد في دراسة الصور المشابهة في كل عصر ومصر مهما اختلفت الألوان وتغيرت العناوين والشعارات؛
وذلك لأن الله جل وعلا لم يقص على عباده المؤمنين إلا لكي يتعظوا ويعتبروا ويتدبروا أمرهم فلا يقعوا فيما وقع فيه الأقوام، وحتى لا ينالهم من الله العذاب:
كذالك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد اتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [طه:99، 100]،
لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب [يوسف:111].
أيها المسلمون، ومن خلال استعراض الآيات القرآنية،
تتضح معالم المنهج الفرعوني في الطغيان وهي كثيرة ومتعددة من أهمها:
أنه يحكم بغير ما أنزل الله عز وجل
ويجعل من نفسه معبودا من دون الله عز وجل
يتحكم في الناس، ويأمرهم أن يطيعوه،
ويشرع لهم ما يراه متفقا مع أهوائه ومصلحته،
ويدعي أنه الخير لهم والبركة عليهم،
وأنه يريد لهم الصلاح وغيره يريد الفساد،
وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الأرض الفساد [غافر:26]،
وقال فرعون ياأيها الملا ما علمت لكم من اله غيرى فأوقد لى ياهامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى اله موسى وإنى لاظنه من الكاذبين [القصص:38].
فرعون الطاغية أتى إلى قومه بصورة الناصح المشفق عليهم من تبديل دينهم وإظهار الفساد عليهم، وطريقته في علاج هذه المشكلة طريقة رائعة، ولا يدرك روعتها إلا الطغاة من أمثاله، وهي أن يقتل موسى، وأن يقتل أبناء الذين آمنوا معه ويستحيي نساءهم،
إنها طريقة تدل على صدق معهم وإخلاص لهم وشفقة عليهم،
إنها الطريقة التي سار عليها تلاميذ مدرسة الطغاة من بعده،
نريد أن نحرركم من الظلم ونخرجكم إلى عالم من الحرية لم تكونوا تحلمون به،
وطريقتنا في ذلك هي أن نأتي بمئات الآلاف من الجنود وبأطنان الأسلحة وأنواع العتاد ثم نقصفكم حتى الموت، ونملأ بلادكم بالأمراض والأسقام، ونجرب عليكم أنواع الأسلحة الجديدة، وهذا شرف لكم أن جربنا عليكم أسلحة جديدة،
أو طريقة أخرى هي أن تهربوا لدول مجاورة
لتعيشوا حياة كريمة مغتربين في خيام اللاجئين ومنة المتبرعين.
أيها المسلمون،
ومن أبرز معالم الطاغية أنه يفتخر بما يملك من مال أو قوة أو ملك أو تقدم مادي،
وينسى مصدر ذلك كله،
وينسبها لنفسه معتمدا على حب الناس لمتاع الدنيا،
ولذلك افتخر فرعون بأنه يملك الأرض الخضراء ولديه الماء والأنهار والسلطان:
ونادى فرعون فى قومه قال ياقوم أليس لى ملك مصر وهاذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون [الزخرف:51]،
وهذا الادعاء ناتج عن الغرور بما أعطاه الله من الملك والمال والقوة والنعيم والحاشية والأتباع،
ولكن ذلك مقترن أيضا بخضوع الناس للطاغية وسكوتهم عن مظالمه وخوفهم من سطوته وجبروته وانكبابهم على الأمور المادية والمنافع الدنيوية ونسيانهم لآخرتهم،
مما يجعلهم مستعبدين للظالم وأتباعا للطاغية كما فعل أتباع فرعون وقومه.
وعندما أراد أن يقنع قومه بأنه المعبود لهم من دون الله وأن دعوة موسى عليه السلام لا تنفعهم ولا تفيدهم استخدم هذا الأمر الذي يملك أفئدتهم ويسد عليهم طريق الهدى
فقال: فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملئكة مقترنين [الزخرف:53]،
والناس المضللون الذين استعبدهم الطغاة وأذلوهم حتى أفسدوا فطرهم يستجيبون لمثل هذه المغريات ويذعنون لحواسهم القاصرة وينكرون ما لا تصل إليه حواسهم ويعطلون عقولهم.
أيها المسلمون، ومن معالم الطغاة ثالثا أنهم ينكرون الغيبيات ويعادونها؛
لأن ذلك يتعارض مع ما يريدون؛
وقال فرعون ياأيها الملا ما علمت لكم من اله غيرى فأوقد لى ياهامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى اله موسى وإنى لاظنه من الكاذبين [القصص:38].
يخاف الطغاة من إيمان الناس بالغيب؛ لأنه يحررهم من أسر العبودية لجبروت الظالمين، ويفسح أمامهم النظر في ملكوت الله عز وجل، فيعرفون أن هناك مالكا قديرا،
وأن هؤلاء الطغاة بشر مخلوقون مثلهم انحرفوا عن شرع الله وتجبروا وظلموا،
وأنهم سوف يمضون بعد حين ليواجهوا مصير العذاب؛
لأن الله وحده يملك المصير ويملك الموت والحياة،
إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب
[آل عمران:10، 11].
ومن معالم الطغاة التكذيب بآيات الله ومعاداة الرسل والدعاة
والتنكيل بهم ورميهم بشتى التهم والأباطيل
حتى ولو كانت الدعوة قد جاءتهم بالوسيلة اللينة والخطاب الشفوق؛
لأن المتجبر لا يصغي لغير نفسه،
ولا يفهم في لغة الحوار إلا حبال المشانق وسياط الجلادين.
ها هو موسى و هارون عليهما السلام يخاطبان فرعون بالخطاب اللين الرشيد، ولكنه تجبر وتكبر وأرعد وأزبد وقال: لئن اتخذت الها غيرى لاجعلنك من المسجونين [الشعراء:29]، ولكن موسى لم يخف هذا التهديد، بل قدم لفرعون الآية تلو الآية لعله يخشى ويعود إلى الحق، فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين ونزع يده فإذا هى بيضاء للناظرين [الشعراء:32، 33]، وظلت الآيات تترى واحدة إثر أخرى والطاغية لا يستمع ولا يرعوي
حتى أهلكه الله وقومه الظالمين،
ونجى موسى وقومه المؤمنين.
وظلت هذه العنجهية هي لغة الطغاة في الحوار والجدال،
وطغاة اليوم في هذا كطغاة الأمس، لم يفارقوا هذه اللغة المحببة إليهم في الحوار،
فلا مجال عندهم للجدال بالحسنى،
وإنما على متن المقاتلات ورؤوس المدرعات،
وما قالوه هو الصحيح لأنه قولهم، وليس لأنه صحيح،
ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [غافر:29].
أيها المسلمون،
ومن معالم الطغاة أنهم يلجؤون إلى التنكيل الظالم بالمعارضين والبطش بالدعاة إلى الله،
ولا يمنعهم شيء من ارتكاب كل جريمة مهما بدت منافية للخلق والمنطق،
ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال [غافر:23، 25].
أيها المسلمون،
ولكل طاغية أعوان،
منهم من يعين بالرأي للتضليل والإفساد وتزيين الباطل للناس وإنفاذ رغبات الطاغية مثل هامان،
ومنهم من يعين بالمال كقارون،
إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين [القصص:8]،
ومع هذا الوزير الطاغية أيضا حشد من الجنود والأعوان والأتباع التي تنكل بالناس وترصد حركاتهم وتبطش بهم وتتعالى على الناس بما لديها من قوة وسلاح وسلطان،
واستكبر هو وجنوده فى الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون [القصص:39]،
ولكن الله لهؤلاء بالمرصاد؛ للطاغية وأعوانه ولكل من يشايعه ويخضع له،
فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين [القصص:40-42].
وهكذا يكون مصير الطغاة، لهم يوم موعود ومصرع مشهود.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا عباد الله، وبعد هذا العرض السريع للطاغية والطغاة ممثلا بفرعون وقومه
يتبين لنا أن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية
حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد من دون الله،
وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلا أيام كانت عبوديتهم لله وحده
عقيدة وعبادة وشريعة،
وما تحرر الناس قط إلا في ظلال ربوبيته الواحدة.
إن نسيان ذلك من الناس يضللهم في الحياة فيجعلهم أشياعا للباطل وجنودا للطغاة الظالمين الذين لا يكفون عن تسخيرهم لغير ما أراد الله وامتلاك إرادتهم وقلوبهم وعقولهم.
إن أصناف الطغيان كثيرة وأنواع الطغاة متعددة،
فإذا كان بالأمس فرعون ففي الحياة كثير من أصناف الفراعنة،
وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون فقد كان في تصرفه هذا أقل طغيانا من طواغيت كثيرة في القرن العشرين في مواجهة العالم الإسلامي ومواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين وتهديد لسلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة.
فهل يستيقظ الناس وهم يعيشون محنة من أقسى ما عرف العالم الإسلامي من المحن، ويمرون في ثنايا فتنة كبيرة
نسأل الله عز وجل أن يجعلها نصرا للحق والإسلام والمسلمين؟!
وكل ذلك بفعل الطغيان وتصرفات الطغاة.
نسأل الله أن يقصم ظهور طغاة اليوم كما قصم ظهور أسلافهم،
وأن يشفي صدور المسلمين منهم كما شفى صدور المؤمنين بنهاية فرعون البئيسة.
اللهم أرنا فيهم يوما أسود أسوأ من يوم فرعون وهامان وأبي بن خلف.
اللهم أرنا فيهم بطشك الشديد، وأخذك القوي، واشف صدور قوم مؤمنين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
New Post- مديرة ستار ديس
- تاريخ التسجيل : 24/08/2018المساهمات : 4133نقاط التميز : 6472الجنس :العمر : 24الأبراج :
رد: لكل زمان فرعون
شكرا لك على الموضوع الجميل و المفيد
جزاك الله الف خير على كل ما تقدمه لهذا المنتدى
ننتظر ابداعاتك الجميلة بفارغ الصبر
التوقيع
_________________
رد: لكل زمان فرعون
بصراحــه رائع جدا هذا الموضوع
بصراحه انتي تمتلكي ذوق راقي في جـلب ماهو مميّز وجميل
دائما كلماتك ترتدي ثوب التميز والابداع الثقيلان
صح أحساسك ولسانك ودام توهجك
بصراحه انتي تمتلكي ذوق راقي في جـلب ماهو مميّز وجميل
دائما كلماتك ترتدي ثوب التميز والابداع الثقيلان
صح أحساسك ولسانك ودام توهجك
التوقيع
_________________
منتدى احلى تومبلايت
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى