خطورة البدع على الدين من خلال مدارسة آية سورة الحديد

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

خطورة البدع على الدين من خلال مدارسة آية سورة الحديد

مُساهمة من طرف abdel_madjid الإثنين يناير 13, 2020 5:37 am


خطورة البدع على الدين من خلال مدارسة آية سورة الحديد

في كتاب الله تعالى نقرأ بعض أخبار بني إسرائيل وما وقعوا فيه من انحرافات، حتى بدلوا الدين واندرست تعاليم الشريعة لديهم، وعموا وصمُّوا كثير منهم، وهذا القصص منه جل جلاله لأجل الاعتبار والعظة، فنتعلم لنحذر ونتقيَ ذلك الزلل عن صراطه المستقيم، ودينه القويم الموصل لجنة النعيم، والذي يصير لمن أقامه رحمة، رحمة يرحم بها عباده في الدنيا قبل الآخرة، فإن شرعه حنيفية سمحة، موافقة للفطرة، يسيرة التكاليف، مراعية لتقلب الظروف والأحوال، حميدة العواقب، ولا تظهر الآصار والأغلال والتعاسة إلا بغياب الشريعة كلها أو بعضها.

ولما كان الدين الصحيح رحمة للعباد، بيَّن فيه وفصَّل؛ فإن تفصيل ما يحتاجه الناس أكثر من احتياجهم الماء والهواء من الرحمة، حتى تركنا رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدًا حبشيًّا؛ فإنما المؤمن كالجمل الأنِفِ حيثما قِيد انقاد))[1]، فالدين واضح صالح، لن تحتاج معه لغيره، والمؤمن متبِعٌ منقاد، وإذا كان الطريق معبَّدًا والسالك مهتديًا، يُرجى الوصول للبغية، ومع كل هذا البيان والوضوح حذَّر الله عز وجل من البدع والتغيير تحذيرًا بالغًا، وأحاط الدين بسياج من الأمر بالاتباع، والحذر والحيطة من الابتداع، وشدد في هذا الأمر وأنذر؛ رأفة بالعباد.

وبيَّن لنا ملامح تلك البدع وفصَّلها في كتابه الكريم، البدع التي منها بدعة الرهبانية التي ذكرها الله عز وجل في آية سورة الحديد، ونحن نتدارسها بإذن الله، ونتبين منها خطورة البدع وكيف تفسد الدنيا والدين، وتوقع العباد بالحرج والمشاق والخسران.

ما هي بدعة الرهبانية؟

الرهبانية هي الانفراد للعبادة، والانقطاع عن الناس في الصوامع، ورفض النساء وترك الدنيا، ويتسبب عن ذلك حملُ النفس على المشاق المضادة للفطرة والغرائز الإنسانية.

ملامح البدع من آية الحديد:

قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 27].

الملمح الأول:

البدعة نبتة طفيلية:

البدعة شيء زائد متطفل لا حاجة إليها؛ لكمال الدين وتمام التبليغ، وذلك من تتابع الرسل وكمال الإعلام والتبليغ، وهذا مفهوم التقفية في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾؛ أي: "لا ننشئ آثار الأول منهم حتى نرسل الذي بعده في قفاه، فكل رسول بين يدي الذي بعده، والذين بعده في قفاه، فهو مقفٍّ له؛ لأن الأول ذاهب إلى الله والثاني تابع له، فنبينا صلى الله عليه وسلم أعرق الناس في هذا الوصف؛ لأنه لا نبي بعده؛ ولهذا كان الوصف أحد أسمائه"[2].

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم، وكل بدعة ضلالة".

ولأن الحديث عن بدعة الرهبانية عند النصارى؛ قال الله عز وجل: ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ ﴾، فذكر نبيهم عليه الصلاة والسلام وكتابه الإنجيل، والإنجيل وصفه الله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46][3]؛ فلم يكن من حاجة لابتداع الرهبانية.

وكما هي الحجة عليهم من القرآن، فإن الحجة عليهم أيضًا من كتاباتهم، فهم يعترفون ببدعيتها؛ ذكر القاسمي رحمه الله: "رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة الرهبنة، وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار؛ فقد قال صاحب (ريحانة النفوس) منهم، في الباب السابع عشر، في الرهبنة: إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية - هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سندٌ لهذا الوهم في الكتب المقدسة؛ لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة؛ فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس لكي يعيشوا بالانفراد، بل إنما كانوا دائمًا مختلطين بالعالم، يعلمون وينصحون، ونحن نقول بكل جراءة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس؛ فإن روح الكتاب وفحواه يضاد كل دعوى مبنية على العيشة المنفردة المقرونة بالتقشفات، ولكن مع أن الكتاب المقدس لا يمدح العيشة الانفرادية، فقد ظهر الميل الشديد إليها في الكنيسة في أواخر الجيل الثاني وأوائل الجيل الثالث، وأيَّد بعض الباحثين المقاومين لها وقتئذٍ أنها عادة سَرَتْ للمسيحيين من الهنود الوثنيين السمانيين؛ فإن لهم أنواعًا كثيرةً من عبادات تأمر كهنتها بالبتولية، والامتناع عن أكل اللحم، وأمور أخرى مقرونة بخرافات"[4]؛ ا.هـ.

وهذا الملمح يدلنا على أهمية بيان كفاية الدين وضرورة الاتباع.

abdel_madjid
abdel_madjid
عضو جديد

تاريخ التسجيل : 24/08/2018
المساهمات : 52
نقاط التميز : 150
الجنس : ذكر
العمر : 34
الأبراج : الثور

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: خطورة البدع على الدين من خلال مدارسة آية سورة الحديد

مُساهمة من طرف abdel_madjid الإثنين يناير 13, 2020 5:39 am


الملمح الثاني:

البدعة تنمو وتترعرع في بيئة الجهل والتخلف:

فإن التقصير في التعلم والفقه في الدين يهيئ بيئة خصبة للبدع، فهي إما تنشأ مع الجهل أو اتباع الهوى أو من كليهما، وكلما خفيت السنن ظهرت البدع؛ لأن التدين والتعبد فطرة في النفوس البشرية، فإن لم يتعبدوا بالسنن تعبدوا بالبدع، وأعظم سلاح في مواجهتها تتبع آثار الرسول؛ ولذلك تجد أكثر الناس بعدًا عنها أهل الحديث، وإن كانت آثار الأنبياء قد مُحيت، فإن آثاره صلى الله عليه وسلم لم تُمحَ وهو المقفي، "والمقفي"؛ أي: هو المتبع للأنبياء[5].

هذا الملمح يبرز أهمية التعلم والتعليم في مقاومة البدع.

الملمح الثالث:

الاستعداد الشخصي والميل:

قد يكون لأناس ميلٌ إلى نوع من البدع أكثر من غيرهم، فالنصارى المتبعون لعيسى عليه السلام لمَّا جعل الله عز وجل لهم من اللين في قلوبهم؛ كما قال جل شأنه: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ﴾ [الحديد: 27]- كان فيهم ميل للتبتل الزائد والخوف، والرهبانية قيل: هي من الرهب.

واليهود لِما في قلوبهم من القسوة والمادية وحب الرئاسة والكبر، كان فيهم ميل لما يشاكل قلوبهم، فظهرت فيهم الخيانات والقلاقل أينما ولوا.

ومثل الكريم يميل للكرم حتى يفرط فيترك أهله عالة، والشجاع قد يفرط حتى يلقي بنفسه للتهلكة، فلذلك يعالج كل استعداد نفسه وميوله بما يناسب الشرع ومقاصده ولا ينحرف، فيميل كل الميل.

الملمح الرابع:

الغلو:

﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ﴾، فالبدعة تجنح للإفراط والغلو، بل إن البدعة ما هي إلا مظهر من مظاهر الغلو في الدين، وقد جاءت الرهبانية بالغلو، "وذلك لأنهم غلَوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح والملبس، وتعلقوا بالكهوف والصوامع والغيران والديرة"[6]؛ ا.ه.

بينما الشريعة تأمر بالقصد الذي يُرجى معه الدوام؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه))، والدوام يرجى معه الوصول؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والقصدَ القصدَ تبلغوا))[7]، وقال الحسن البصري رحمه الله: "إن العبد إذا ركب بنفسه العنف وكلف نفسه ما لا يطيق، أوشك أن يسيب ذلك كله، حتى لعله لا يقيم الفريضة، وإذا ركب نفسه التيسير والتخفيف وكلف نفسه ما تطيق، كان أكيس وأمنعها من هذا العدو"[8]؛ ا.ه.

فإذًا علاج الغلو هو بالرجوع إلى القصد الذي أمرت به الشريعة.

الملمح الخامس:

مخالفة مقاصد الشارع:

قال تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِم ﴾، فلم تُفرض عليهم الرهبانية؛ لأن فيها مخالفة مقاصد الشرع العظيمة، وإذا كان الشارع عليمًا حكيمًا، كان فيما يكتبه على المكلفين غايات نبيلة لا يستطيع إحاطة الإدراك بجميع جوانبها المكلفون؛ فكان الالتزام بالشرع والانقياد أصوب وأرحم وأسعد، ولما كان الإنسان ظلومًا جهولًا، كان فيما يبتدعه ولا بد شرٌّ وفساد؛ قال ابن تيمية رحمه الله: "لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير؛ إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملتها الشريعة"[9]، وكذلك هي الرهبانية، فعلى الرغم من المقصد النبيل الذي أراده أوائلهم، إلا أنها أفسدت الدين بمخالفتها لمقاصد الشرع؛ ففيها اعتزال الناس خصوصًا من الفئة المتدينة الصالحة وهم العباد؛ فتغيب القدوة الصالحة عن المجتمع، وتتعطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيسرع الفساد في المجتمع، ومن يترهبن في الصوامع والأديرة، ينعزل عن واقع الناس ونفعهم وإصلاح أحوالهم، والله المستعان.

نعم، إذا فسد الزمان وكثرت الفتن وخاف المرء على دينه، تُشرع له العزلة، وأما في غير ذلك، فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.

الملمح السادس:

قد يُخدع صاحبها بحسن نيته:

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله: ﴿ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾ فيه قولان؛ أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قاله سعيد بن جبير وقتادة"[10] [11]؛ ا.ه.

فهم ابتغَوا رضوان الله ولكن ضلوا الطريق، "فلا يُشترط في البدعة أن يتصف فاعلها بسوء المقصد وفساد النية، بل قد يكون المبتدع مريدًا للخير، ومع ذلك فعمله يوصف بأنه بدعة ضلالة؛ كما ورد ذلك في أثر ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه"[12] [13]؛ ا.ه.

ولذلك يصعب الرجوع عنها؛ لاعتقاد صاحبها بصواب عمله وحاله، وعلاج هذه النقطة بعرض الأعمال على ميزان الشرع، فما وافقه فاتبعْهُ، وما لا يوافقه فانتهِ عنه، والله الموفق الهادي.

الملمح السابع:

البدعة طريقة محدثة لا أصل لها في الدين أو لها أصل انحرفت عنه:

ويؤخذ الأول من قوله تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾؛ قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم"[14]، فلم تكن الرهبانية في أصل دين النصارى؛ قال ابن عاشور رحمه الله: "قال الله تعالى: ﴿ ابْتَدَعُوهَا ﴾؛ أي: أحدثوها، فإن الابتداع: الإتيان بالبدعة والبدع وهو ما لم يكن معروفًا؛ أي: أحدثوها بعد رسولهم، فإن البدعة ما كان محدثًا بعد صاحب الشريعة"[15].

ويؤخذ الثاني - وهو كون لها أصل انحرفت عنه - من قوله تعالى: ﴿ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾؛ أي: ما كتبنا عليهم ذلك، إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله[16]، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى[17].

فالأصل هو ابتغاء رضوان الله، والانحراف في الرهبانية كان في الطريقة التي يُبتغى بها رضاه جل جلاله، فينبغي مراعاة الشرع في كل شيء: المقاصد والنيات والأعمال، والله تعالى أعلم.

الملمح الثامن:

مشقة رعايتها:

لمخالفتها للفطرة القويمة والطبيعة الإنسانية ولذلك يصعب الالتزام بها؛ قال الله تعالى: ﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾؛ قال ابن كثير رحمه الله: "أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذمٌّ لهم من وجهين؛ أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل"[18]؛ ا.ه.

قال ابن عاشور: "قد فرع على قوله: ﴿ ابْتَدَعُوهَا ﴾، و﴿ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾، وما بعده قولُه: ﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾؛ أي: فترتب على التزامهم الرهبانية أنهم - أي: الملتزمين للرهبانية - ما رعوها حق رعايتها،

وظاهر الآية أن جميعهم قصروا تقصيرًا متفاوتًا، قصروا في أداء حقها، وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به"[19]؛ ا.ه.

فلم يفوا بها؛ لأن متطلبات الرهبانية ضد الفطرة ولذلك تشق؛ ولذلك يحسن في الشرع ألَّا يحملَ العبد نفسه ما لم يكلفه الله به، مثل النذر بالطاعات وغيره؛ فإنه لا يدري ما يعرض له وما قد يتغير من همة نفسه فيما بعد، وهو في غنًى عن ذلك يتقلب في سعة الشرع.

إضافة لذلك، فإن الآثار العظيمة من الفلاح والتوفيق وانشراح الصدر وغيرها من البركات - لا تأتي إلا من الأعمال الصالحة، وهذا أدعى للاستمرار عليها والاستبشار بها، وأما الأعمال المبتدعة فالخير فيها قليل منقطع ولا يأتي بالثمرة المرجوة؛ لذلك يكثر الإلحاد والمروق من الدين فيهم، وانظر حال المتصوفة الآن.

والتعرف على هذا الملمح يجعلك ترى يسر الشريعة وسماحتها ومحبتها والثناء على الله بها، والحمد لله رب العالمين.

abdel_madjid
abdel_madjid
عضو جديد

تاريخ التسجيل : 24/08/2018
المساهمات : 52
نقاط التميز : 150
الجنس : ذكر
العمر : 34
الأبراج : الثور

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: خطورة البدع على الدين من خلال مدارسة آية سورة الحديد

مُساهمة من طرف abdel_madjid الإثنين يناير 13, 2020 5:41 am


الملمح التاسع:

البدعة درجات:

ذكر الله عز وجل منهم طائفة ناجية؛ قال الله تعالى: ﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾؛ قال ابن عاشور رحمه الله: "وهذا ثناء على المؤمنين الصادقين ممن مضَوا من النصارى قبل البعثة المحمدية وبلوغ دعوتها إلى النصارى"؛ ا.ه.

وهذا يدل على أن الولوغ في البدع درجات، فمنهم من يسلم له إيمانه وخصوصا أوائلهم، لكن يُخشى من الاستمرار على البدعة محو هذا الإيمان، فإن العمل الصالح يغذي شجرة الإيمان في القلب، فإن ضلَّ العمل توشك شجرة الإيمان أن تموت؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68]، فالعمل الصالح موصل للهداية.

ويدل قوله تعالى: ﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ على عظمة شأن الإيمان؛ وفي حديث أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل، فقال: إيمان بالله ورسوله))، فمن استمرَّ على الإيمان منهم بما يجب عليه من الإيمان به، وما يستتبع ذلك مما يقوم في قلب العبد من القول والعمل من التصديق والتعظيم، والخوف والرجاء، والمحبة واليقين، وغير ذلك من أعمال الباطن - آتاه الله عز وجل أجره.

وأجر الإيمان والتوحيد عظيم؛ حيث يغفر الله بالتوحيد الذنوب ويكفر به السيئات؛ ففي الحديث القدسي عن أنس رضي الله عنه يرفعه: ((يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقُرابِ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا - لأتيتُك بقرابها مغفرة))[20]، وفي حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة))[21]، فيغفر الله عز وجل للموحد ما لا يغفره الله عز وجل للمشركين.

والبدعة قد يقارنها من الأحوال ما يعذر به صاحبها فيكون معفوًّا عنه؛ قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "لا ريب أن من فعلها - أي: البدعة - متأولًا مجتهدًا أو مقلدًا، كان له أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من المبتدع مغفورًا له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين"[22]؛ ا.هـ.

والضلال في النصرانية وقع من جهتين؛ جهة العقيدة: لما قالوا بالتثليث ونسبة الولد للرب جل جلاله، ومن جهة العمل: لما ابتدعوا الرهبانية، ولا شك أن الابتداع بالعمل قد يكون أهون من الابتداع في العقيدة مع انحرافه وخطورته في ذاته، فلا يُحكم على كل مبتدع بالهلاك، بل بحسب نوع البدعة ودرجتها، والله تعالى أعلم.

الملمح العاشر:

قابليتها للتمدد والانتشار:

قال الله تعالى: ﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾، فقد ذكر الحق جل جلاله الكثرة، وهذه هي طبيعة البدعة أنها تبدأ بعدد قليل ثم تنتشر وتمدد، فإن لم تُبتَر سريعًا بسيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فسيكثر أتباعها ومناصروها، والمدافعون عنها والمؤولون لها، فيصعب بعد ذلك إزالتها، "فتنتقل من شخص إلى شخص، ومن جماعة إلى جماعة، ومن بلد إلى بلد، على سبيل العدوى والتقليد"[23]؛ ا.ه.

وهذا مشاهَدٌ اليوم في كثير من البدع حتى امتدت فشملت أقطارًا إسلامية، وقد حصل قبلُ في رهبانية النصارى؛ ذكر القاسمي في تفسيره نقلًا عن بعض كتب النصارى: "ومع أن الرهبنة حصل عليها مقاومة من العقلاء، امتدت وانتشرت في المسكونة، وكان ابتداؤها في مصر في الجيل الرابع، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات، بسبب الاضطهاد الذي أصابه، وآثر لأجله الطواف في البراري؛ فرارًا من أيادي مضطهديه، ثم عكف على الوحدة وعاش بها، وذلك في الجيل الثالث، ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات؛ توهمًا بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في المعيشة الضيقة القشفة، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك المعيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة مع أن ذلك الوهم باطل، ومضاد للكتب المقدسة"[24]؛ ا.هـ.

وقد جُنَّ جنون هذه الرهبانية في العالم النصراني وتخطى حدود القياس، وإنا نلتقط أمثلة من كتاب (تاريخ أخلاق أوربا) وهو قليل من كثير جدًّا:

"زاد عدد الرهبان زيادة عظيمة، وعظم شأنهم واستفحل أمرهم، واسترعوا الأنظار وشغلوا الناس، ولا يمكن الآن إحصاؤهم بالدقة، ولكن مما يلقي الضوء على كثرتهم وانتشار الحركة الرهبانية ما روى المؤرخون أنه كان يجتمع أيام عيد الفصح خمسون ألفًا من الرهبان، وفي القرن الرابع المسيحي كان راهب واحد يشرف على خمسة آلاف راهب، وكان الراهب (سرابين) يرأس عشرة آلاف، وقد بلغ عدهم في نهاية القرن الرابع عدد أهل مصر"[25].

لكن ذلك لم يستمر؛ فمن حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيُشدَّد عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشُدِّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم))[26].

فقال صلى الله عليه وسلم: ((فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات))، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بُعث في القرن السادس الميلادي، فهذا يدل على عزوف الناس عن الرهبنة بعد أن جُنَّ جنونها في القرن الرابع؛ لمخالفتها في نفسها للفطرة والغريزة الإنسانية، ولفسق كثير من الرهبان، وإن كانت توجد إلى اليوم وهذا من سبب تشددهم، والله تعالى أعلم.

وهذا الملمح يشير إلى الأهمية القصوى في الإنكار على البدع وعدم التهاون بها؛ لأنها كاشتعال النار في الهشيم.

الملمح الحادي عشر:

طبيعة البدعة النمو والتحور:

قال الله تعالى: ﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾، والفسق هو شق ستر الديانة.

قال البقاعي رحمه الله تعالى: "هذا تنفير عظيم عن البدع، وحثٌّ شديد على لزوم ما سنه الله وشرع، وتحذير من التشديد، فإنه لن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، وهو الترحال إلى البدعة[27]؛ ولهذا أكثر في أهل الرهبانية المروق من الدين بالاتحاد والحلول وغير ذلك من البلايا"[28].

ولئن بدأت بدعة الرهبانية بالزهد واعتزال ملذات الدنيا والانكباب على العبادة، فقد تحورت إلى مخلوق آخر قبيح، فإلى ماذا تحورت الرهبانية؟

نقل المؤرخ ليكي[29] من هذه البلايا كثيرًا - نسال الله السلامة والعافية - نلتقط هنا بعض الأمثلة وهي قليل من كثير جدًّا، ويلاحظ من تواريخهم أنهم جميعًا عاشوا في القرن الرابع الميلادي:

يقول: "يروي المؤرخون عن الراهب ماكاريوس (ت: 395م) أنه نام ستة أشهر في مستنقع؛ ليقرص جسمه العاري ذباب سامٌّ، وكان يحمل دائمًا نحو ثمانين رطلًا من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيوس (283 - 371م) يحمل نحو مائة وخمسين رطلًا من حديد، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح، وكان الراهب صابينوس (ت: 304م) لا يأكل إلا الذرة المتعفنة بمكثها شهورًا في الماء، وقد عَبَدَ الراهب يوحنا (ت: 394م) ثلاث سنين قائمًا على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طول هذه المدة، فإذا تعب جدًّا أسند ظهره إلى صخرة، وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائمًا، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل، ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام.

وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون عن غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأتقاهم أبعدُهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات والدنس؛ يقول الراهب أثاناسيوس (293 – 373): إن الراهب أنتوني (251 - 356م) لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره، وكان الراهب إبراهام (ت: 372م) لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة.

وكانت بعض الراهبات ترتجفن عند ذكر الاغتسال، وقال الراهب الكسندر بعد زمن متلهفًا: واأسفاه! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حرامًا، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات، ولقد ظل الراهب سيمون طيلة عام كامل واقفًا على ساق واحدة، وقد مُلئت الساق الأخرى بتقرحات بشعة المنظر، وكان يقف صاحبه بجانبه يلتقط الديدان التي كانت تسقط من جسده، ويضعها في تلك القرح ..."[30].

وكان الرهبان يتجولون في البلاد ويختطفون الأطفال، ويهربونهم إلى الصحراء والأديار، وينتزعون الصبيان من حجور أمهاتهم ويربونهم تربية رهبانية، والجمهور والدهماء يؤيدونهم، ويحبذون الذين يهجرون آباءهم وأمهاتهم ويختارون الرهبانية ويهتفون باسمهم، وعُرف كبار الرهبان ومشاهير التاريخ النصراني بالمهارة في التهريب، حتى روي أن الأمهات كنَّ يسترن أولادهن في البيوت إذا رأين الراهب أمبروز (Ambrose)، وأصبح الآباء والأولياء لا يملكون من أولادهم شيئًا، وانتقل نفوذهم وولايتهم إلى الرهبان والقسوس؛ ا.ه.

وقد ذكر القاسمي في تفسيره نقلًا عن كتاب من كتب النصارى واسمه (البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل الباباوية) التحذيرَ من وقوع كثير الرهبان والراهبات في الزنا: "إن ذم الزيجة خطأ؛ لأنها عمل الأفضل؛ لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة، وإن الأكثرين من رسل المسيح كانوا ذوي نساءٍ تجول معهم، ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن تستوفيَه، وليس بمحرم عليها استيفاؤه حسب الشريعة، ولا استطاعة لجميع البشر على حفظ البتولية؛ ولذلك نرى كثيرين من الأساقفة والقسوس والشمامسة، لا بل الباباوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هُوَّةِ الزنا؛ لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي"[31]؛ ا.ه.

وقد قاومت بدعة الرهبانية الكنائسُ الأخرى؛ لِما رأوه من إفسادها حتى أصبحت أديرة الراهبات مواخير للزنا؛ ذكر القاسمي: "وقد قال صاحب (ريحانة النفوس) أيضًا: إن هذه العادة لا يوجد لها برهان في الكتاب المقدس، وإنما دخلت بالتدريج،حتى قاومتها كنائس أخرى، ورفضت بدعة البتولية وقوانينها؛ لمغايرتها للطبيعة، ومضادتها لنص الكتب الإلهية، واستقرائها أديرة الراهبات، بأنها في بعض الأماكن كانت بيوتًا للفواحش والفساد"[32]؛ ا.ه.

وهذا الملمح مما يبين كمال الشريعة، وكونها محاطة بحدود وتعاليم منهجية ضابطة، بخلاف البدعة العشوائية التي لا تدري إلى ما قد تتحور إليه من قبائح مهما حسنت بداياتها، فالرهبانية بدأت من ابتغاء رضوان الله، ثم تحولت للفسق، فكانت النتيجة خسارة الدنيا وضياع الدين.

الملمح الثاني عشر:

البدعة تفسد ولا تصلح:

وهو يؤخذ أيضا من قوله تعالى: ﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾، فالفاسق كما أنه مؤذٍ لنفسه بكثرة ذنوبه وعصيانه كما هو في الملمح السابق، فهو أيضًا مؤذٍ لغيره مفسدٌ في الأرض ببدعته.

أما النصرانية الرومية، فقد حاولت عبثًا تغيير الفطرة وإزالتها، وجاءت بنظام لا تطيقه الفطرة الإنسانية ولا تسيغه، وحملت النفوس ما لا طاقة لها به، فرغَّبت فيه كردِّ فعل ضد المادية الطاغية واحتملته كارهة، ثم تخلصت منه وثارت عليه ولم تقدر النصرانية بإسرافها في الرهبانية والزهد ومكابرتها للفطرة والواقع - أن تصلح ما فسد من أخلاق الناس وعوائدهم، وتمسك بضبع المدينة الساقطة إلى الهاوية، وتمنعها من التردي، فكانت حركة الفجور والإباحة وحركة الغلو في الزهد[33].

وهكذا حصل الفساد والإفساد في بدعة الصوفية؛ فلكل فعل ردة فعل معاكسة له في الاتجاه، فلما أعرض طائفة من الصوفية عن تلك الواقعية في الإنسان، ولم يلتفتوا إلى نوازع الإنسان وغرائزه، وخالفوا الفطرة السوية - تعذَّر عليهم قمع تلك الغرائز، ثم انتكسوا إلى الإغراق في الشهوات والإباحة.

ولقد تحدث ابن الجوزي عن هذا الصنف مبينًا سبب انحرافهم فقال: "إن قومًا منهم وقع لهم أن المراد رياضة النفوس لتخلص من أكدارها المردية، فلما راضوها مدة ورأوا تعذر الصفاء، قالوا: ما لنا نتعب أنفسنا في أمر لا يحصل لبشر، فتركوا العمل.

وكشْفُ هذا التلبيس أنهم ظنوا أن المراد قمع ما في البواطن من الصفات البشرية مثل قمع الشهوة والغضب وغير ذلك، وليس هذا مراد الشرع، ولا يتصور إزالة ما في الطبع بالرياضة، وإنما خُلقت الشهوات لفائدة؛ إذ لولا شهوة الطعام هلك الناس، ولولا شهوة النكاح انقطع النسل، ولولا الغضب لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يؤذيه ... وإنما المراد من الرياضة كف النفس عما يؤذي ... وإنما تنتهي عما تطلبه، ولو كان طلبه قد زال عن طبعها ما احتاج الإنسان إلى نهيها؛ وقد قال الله عز وجل: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾ [آل عمران: 134]، وما قال: والفاقدين الغيظ، والكظم رد الغيظ ..."[34].

فلا تستحسن شيئًا من البدع، فإنها تفسد ولا تصلح، وأغلب البدع الحامل على الاستحسان والتكبر عن الاتباع، ولئن تكون ذيلًا في الخير خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سنَّ سنة سيئةً فعمل بها من بعده، كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئًا))؛ [رواه مسلم].

الملمح الثالث عشر والأخير:

ضعف الدين:

وهذا من أخطرها، تأمل تغير نظم الكلام في قول الله تعالى: ﴿ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾، فجاءت جملة الصلة التي تفيد علية الحكم دون الإشارة إلى كمال التلبس أو تمامه، فالإيمان مُنجٍ كثيره وقليله، لكن عند الحديث عن الفاسقون، جيء باسم الفاعل الذي يدل على العراقة في التلبس بالصفة مع وصف الكثرة، وكلاهما هادمٌ للدين: الإغراق في الفسق، مع كثرته.

فقد نفَّرت هذه البدعة النصارى من الدين، فكانوا ضالين مضلين، ولنتأمل بعض تأثيرها في أخلاق المسيحيين:

"كان نتيجة هذه الرهبانية أن خِلالَ الفتوة والمروءة التي كانت تعد فضائل، عادت فاستحالت عيوبًا ورذائل، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح، والصراحة والسماحة، والشجاعة والجرأة وهجروها، وكان من أهم نتائجها أن تزلزلت دعائم الحياة المنزلية، وعمَّ الكنود والقسوة على الأقارب، فكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حنانًا ورحمة، وعيونهم من الدمع، تقسو قلوبهم وتجمد عيونهم على الآباء والأمهات والأولاد، فيُخلِّفون الأمهاتِ ثكالى والأزواج أيامي والأولاد يتامى، عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء، همهم الوحيد أن ينقذوا أنفسهم في الآخرة لا يبالون ماتوا أو عاشوا، وحكى (ليكي) من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب، وكانوا يفرون من ظل النساء، ويتأثمون من قربهن والاجتماع بهن، وكانوا يعتقدون أن مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن - ولو كنَّ أمهات وأزواجًا أو شقيقات - تحبط أعمالهم وجهودهم الروحية، وروى (ليكي) من هذه المضحكات المبكيات شيئًا كثيرًا"[35] [36]؛ ا.هـ.

فكان من أثر هذه الرهبانية أن تقلصت العبادة في النصارى وضلوا سنة الأنبياء - الوسطية التي جاءت بها الأديان السماوية - وانغمسوا في الشهوات، وغلا ما بقي من الرهبان في العبادة في صوامعهم.

قال حسان بن عطية رحمه الله: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم، إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إلى يوم القيامة".

فالبدعة لأنها طريقة محدثة في الدين تعمل كالممحاة، مع مرور الزمن ونموها وتحورها، تضيع معالم الصراط المستقيم فلا يستطيعون الرجوع، ولذلك جاء وصفهم بـ"الضالين" في كتاب الله عز وجل، ولا نجاة لهم الآن إلا بالإسلام.

الإسلام الطريق الواضح المحدد بالنصوص الشرعية لا يُزاد عليه ولا ينقص، مع سعته ورحابته في نفسه، عاصم من الزلل موصل للرحمة والهدى.

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجِلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله،كأنها موعظة مودِّعٍ، فأوصنا فقال: أوصيكم ونفسي بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة))[37].

اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

[1] قال الشيخ الألباني: صحيح.

[2] نظم الدرر للبقاعي رحمه الله.

[3] وهذا الوصف جاء في سورة المائدة في سياق الحث على الاحتكام إلى كتاب الله والحكم به، فبيَّن كفايته لمن اهتدى به في زمنه من المتقين، ولم يأتِ مثله في سورة الحديد؛ لأن المبتدع يحتكم لعقله وهواه مهما كان الحق واضحًا، والله تعالى أعلم.

[4] محاسن التأويل.

[5] عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ))؛ [صحيح مسلم، (2355)].

[6] فتح البيان، صديق حسن خان (1307هـ).

[7] رواه البخاري.

[8] الزهد لابن المبارك.

[9] اقتضاء الصراط المستقيم.

[10] تفسير القرآن العظيم لابن كثير.

[11] وسيأتي القول الثاني في الملمح السابع.

[12] قال ذلك رضي الله عنه حين رأي قومًا في المسجد يجلسون حلقًا، وفي كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، فيقول: كبِّروا مائة؛ أخرجه الدارمي في سننه (1/ 68 - 69).

[13] نقلًا من كتاب "قواعد معرفة البدع"، المؤلف: محمد بن حسين الجيزاني.

[14] تفسير القرآن العظيم لابن كثير.

[15] التحرير والتنوير.

[16] تفسير القرآن العظيم لابن كثير.

[17] فسَّر الآية في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح".

[18] تفسير القرآن العظيم لابن كثير.

[19] التحرير والتنوير.

[20] الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 176، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم: 127، 128.

[21] رواه مسلم.

[22] اقتضاء الصراط المستقيم.

[23] مجموعة رسائل عبدالله بن زيد آل محمود.

[24] تفسير القاسمي محاسن التأويل.

[25] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.

[26] مسند أبي يعلى (6/ 365)، وضعفه الألباني، وقال الأرنؤوط: حسن لغيره.

[27] هكذا فسَّر (البقاعي) رحمه الله تعالى غلبة الدين للمشاد، وهو أن الدين سيبقى يسرًا ولن يتحول للشدة، ولكن هذا المشاد في الدين سيرتحل للبدعة لقابليتها للغلو، والله أعلم، ولذلك أوصى صلى الله عليه وسلم في الشطر الثاني من الحديث بتسديد الهدف، وهو الإصابة الصحيحة للدين أو على الأقل في مقاربتها: ((فسددوا وقاربوا))، فأكثر الناس تمسكًا بهذا الدين أكثرُهم يسرًا ورفقًا ولينًا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((وأبشروا))، والله تعالى أعلم.

[28] نظم الدرر.

[29] المؤرخ الأيرلندي وليام هارتپول ليكي (1838 - 1903م) صاحب كتاب (تاريخ أخلاق أوربا).

[30] كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟).

[31] محاسن التأويل.

[32] محاسن التأويل.

[33] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

[34] تلبيس إبليس.

[35] تاريخ أخلاق أوربا لليكي (History of European Morals.part II Chapter IV، from Constantine to Charlemagne)

[36] ماذا خسر العالم من انحطاط المسلمين؟

[37] رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

abdel_madjid
abdel_madjid
عضو جديد

تاريخ التسجيل : 24/08/2018
المساهمات : 52
نقاط التميز : 150
الجنس : ذكر
العمر : 34
الأبراج : الثور

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: خطورة البدع على الدين من خلال مدارسة آية سورة الحديد

مُساهمة من طرف Nabil LacRiM الإثنين يناير 13, 2020 9:00 pm



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الف شكر على المشاركة الرائعة والمميزة

بانتظار القادم الاروع ان شاء الله


Nabil LacRiM
Nabil LacRiM
مراقب الكمبيوتر والانترنت

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 2639
نقاط التميز : 4581
الجنس : ذكر
العمر : 28
الأبراج : الدلو

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع

لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان

سجل معنا الان

انضم الينا جروب تاج فعملية التسجيل سهله جدا ؟


تسجيل عضوية جديدة

سجل دخولك

لديك عضوية هنا ؟ سجل دخولك من هنا .


سجل دخولك

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى