فقه البعث والحشر
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
فقه البعث والحشر
فقه البعث والحشر
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} [يس: 51 - 53].
وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس: 45].
وقال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} ... [التغابن: 7].
ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع والموت، ثم ينفخ النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].
فإذا نفخ في الصور نفخة البعث خرج الناس من الأجداث والقبور ينسلون إلى ربهم، ويسرعون للحضور بين يديه، الأولون والآخرون، والإنس والجن، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يساقون حسب أعمالهم، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فسبحان الله ما أعظم هذا المَلَك، إسرافيل بنفخة واحدة منه يصعق أهل السماء وأهل الأرض إلا من شاء الله، وبنفخة أخرى يحيا جميع الخلق، ويخرجون من قبورهم قيام ينظرون.
وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكيف بقوة بدنه؟ .. وكيف تكون قوة خالقه الذي خلقه وَأَمَره؟.
وما أعظم ما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور، فإذا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عن رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة.
فَتَوَهَّم نفسك معهم، وقد وَثَبْتَ متغير الوجه، مُغْبَرَّ البدن، مضطرب الفؤاد،
مبهوتاً من شدة الصعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الفزع والرعب، فضلاً عما هم فيه من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر.
وبهذه النفخة يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ» قَالُوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ! أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أبَيْتُ؟ قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أبَيْتُ «ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ».
ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].
ثم انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر، أرض بيضاء، وقاع صفصف، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، لا ترى فيها ربوة يختفي الإنسان وراءها، ولا وهدة ينخفض عن الأعين فيها، بل هي صعيد واحد لا تفاوت فيه، يساقون إليه زمراً، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إلى أرض المحشر، لا يتخلف منهم أحد: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} ... [الكهف: 47].
فأحضر قلبك، وانظر إلى صورتك وأنت واقف هناك عارياً ذليلاً، متحيراً بهوتاً، وجلاً خائفاً، منتظراً لما سوف يجري عليك وعلى غيرك من القضاء بالسعادة، أو الشقاوة الأبدية.
يستقبلك يوم عظيم شأنه .. ترى فيه السماء قد انفطرت .. والكواكب من هوله انتثرت .. والنجوم قد انكدرت .. والشمس قد كورت .. والجبال قد سيرت .. والبحار قد سجرت .. والجحيم قد سعرت .. والجنة قد أزلفت .. يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات .. يوم تحمل فيه الأرض والجبال فتدك دكة واحدة .. يوم ترجّ فيه الأرض رجّاً .. وتبسّ الجبال بسّاً .. يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث .. يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت .. وتضع كل ذات حمل حملها: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2].
يومٌ لا يُسأل أحد عن ذنبه من إنس ولا جان، ولا يُسأل فيه عن ذنوبهم المجرمون، بل يؤخذ فيه بالنواصي والأقدام: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30].
يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت.
والناس بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم.
فتأمل حالك أمامه .. وما يحل بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودقته .. ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته .. والناس يتعاوون فيها ويبكون .. ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها .. وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك .. واضطراب قلبك .. وتزلزل قدمك .. وثقل ظهرك بالأوزار والذنوب.
فكيف حالك عند عبور الصراط .. وأنت ترى الخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون .. وتتناولهم زبانية النار بالكلاليب والخطاطيف .. وأنت تراهم ينتكسون على وجوههم في النار .. وتعلو أرجلهم .. والنار تغلي بهم .. تشوي وجوههم .. وتحرق أجسادهم .. وتقطع أمعاءهم.
فيا له من منظر ما أفظعه .. ومرتقى ما أصعبه .. ومجاز ما أضيقه .. وهول ما أفزعه.
فانظر إلى حالك وأنت تعبر الصراط وتزحف عليه .. وأنت مثقل الظهر بأوزارك .. تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار.
والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم، لكثرة من زل عن الصراط من الخلائق.
فكيف بك لو زلت قدمك .. ووقَعْتَ في قعر جهنم .. ووقع بك ما كنت تخافه .. وأنت تنادي يا ليتني قدمت لحياتي .. يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ... يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً .. يا ليتني كنت تراباً .. يا ليتني كنت نسياً منسياً.
فكيف ترى أيها العبد عقلك الآن .. وهذه الأخطار بين يديك .. فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم؟.
وإن كنت مؤمناً وعنه غافلاً فما أعظم خسرانك وطغيانك؟.
وتأمل في أحوال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها ينتظرون حقيقة أنبائها، وشفاعة شفعائها، إذا أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات لهب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وشهيقاً.
فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، وجاءت الزبانية بمقامع من حديد، لتأخذ كل مجرم إلى العذاب الشديد، فينكسونه في قعر جهنم ويقولون له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49].
وأسكن أهل النار داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، يوقد فيها السعير، ويسقى فيها الحميم، يحشرون إليها عمياً وبكماً وصماً.
ويكبون فيها على وجوههم، مغلولين مقرنين في الأصفاد.
النار من فوقهم ومن تحتهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم .. تغلي بهم النار كغلي القدور، ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم .. فيتفجر الصديد من أفواههم .. وتتقطع من العطش أكبادهم .. وتسقط من الإحراق لحومهم وشعورهم.
كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56].
وهم في تلك الأهوال والمواقف صمُّ بكمٌ عميٌ .. يبكون ويصيحون .. وهم يمشون في النار على وجوههم .. لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون .. قد غُلَّت أيديهم إلى أعناقهم .. وجُمع بين نواصيهم وأقدامهم.
طعامهم الزقوم، والصديد، والضريع .. وشرابهم الحميم والغساق وفرشهم من نار .. ولباسهم من نار: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج: 19 - 22].
فما أعظم هذه الأحوال والأهوال، وما أشد حسرات أهل النار.
فهل نقبل هذا الإنذار، ونستعد لذلك الموقف الرهيب؟.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} ... [مريم: 39].
وهذه الدار التي عَرَفْت همومها وغمومها وشدة عذابها، تقابلها دار أخرى، وهي دار النعيم، ودار السلام، دار المتقين.
ومن لم يدخل هذه الدار استقر لا محالة في الدار الأخرى.
وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل طاعته وعبادته بدخول الجنة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57].
فتفكر في أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم.
في وجوههم نضرة النعيم .. يسقون من رحيق مختوم .. ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق .. يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير.
متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل والماء واللبن، محفوفة بالغلمان والولدان كما قال سبحانه: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} ... [الإنسان: 19].
يطوف عليهم في تلك الجنان ولدان مخلدون بأكواب وأباريق، وكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، وجنانهم مزينة بالحور العين للتنعم والاستمتاع .. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان .. كأنهن الياقوت والمرجان ... كأمثال اللؤلؤ المكنون .. خيرات حسان .. يمشين في درجات الجنان .. عليهن من الحرير الأبيض وفاخر اللباس ما تتحير فيه الأبصار .. مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان.
عطرات آمنات من الهرم والبؤس .. حور مقصورات في الخيام .. قاصرات الطرف عين.
يطوف على أهل الجنة ويخدمهم ولدان مخلدون كأمثال اللؤلؤ المكنون .. وأهلها جالسون على منابر الياقوت الأحمر .. في خيام واسعة من اللؤلؤ ... وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها .. وبسطهم من العبقري الأخضر.
وهم في الجنة خالدون .. في مقعد صدق عند مليك مقتدر .. ينظرون فيها إلى وجه الرب الملك الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23].
فهم عباد مكرمون .. وفيما اشتهت أنفسهم خالدون .. لا يخافون فيها ولا يحزنون .. وهم من ريب المنون آمنون .. فهم فيها يتنعمون .. ويأكلون من ألوان الطعام .. ويشربون من أنهار الخمر والعسل والماء واللبن.
ويسكنون في جنة أرضها المسك والكافور .. وبناؤها لبنة من فضة، ولبنة من ذهب .. وحصباؤها اللؤلؤ والمرجان .. وترابها الزعفران والدر والياقوت .. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية: 8 - 16].
فيا له من نعيم ما أكمله .. ويا له من سرور ما أعظمه .. ويا له من خير ما أدومه .. فليسعد بذلك ويهنأ به من آمن بالله رباً .. وبالإسلام ديناً .. وبمحمد (رسولاً: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].
يا حسرة على العباد .. كيف يفرطون في هذا النعيم المقيم والملك الكبير؟.
إن الواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن، والغرف المزينة المزخرفة، والخيام الفخمة الواسعة، ما لا يدركه الوصف ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة والرياض الزاهرة، والأنهار الجارية، ما يأخذ القلوب، ويفرح النفوس، ويبهر العقول.
وعنده من الزوجات اللاتي هن في غاية الجمال والحسن والإحسان، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً.
وحوله من الولدان المخلدين، والخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش، وتكمل الغبطة.
وفوق ذلك كله الفوز برضى الرب الرحيم، وسماع كلامه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين. كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} ... [التوبة: 72].
فيا له من نعيم ما أتمه وما أكمله، ويا له من مُلك ما أوسعه؟
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 20 - 22].
فهذه حال العباد يوم القيامة، وهذه مساكنهم، وهم بحسب أعمالهم إليها راجعون: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].
إن التكاثر في الأموال والأولاد واتباع الشهوات شغل أهل الدنيا، وألهاهم عن الله والدار الآخرة، حتى حضرهم الموت وهم غافلون عما به فوزهم وفلاحهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 1 - 8].
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} [يس: 51 - 53].
وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس: 45].
وقال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} ... [التغابن: 7].
ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع والموت، ثم ينفخ النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].
فإذا نفخ في الصور نفخة البعث خرج الناس من الأجداث والقبور ينسلون إلى ربهم، ويسرعون للحضور بين يديه، الأولون والآخرون، والإنس والجن، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يساقون حسب أعمالهم، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فسبحان الله ما أعظم هذا المَلَك، إسرافيل بنفخة واحدة منه يصعق أهل السماء وأهل الأرض إلا من شاء الله، وبنفخة أخرى يحيا جميع الخلق، ويخرجون من قبورهم قيام ينظرون.
وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكيف بقوة بدنه؟ .. وكيف تكون قوة خالقه الذي خلقه وَأَمَره؟.
وما أعظم ما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور، فإذا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عن رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة.
فَتَوَهَّم نفسك معهم، وقد وَثَبْتَ متغير الوجه، مُغْبَرَّ البدن، مضطرب الفؤاد،
مبهوتاً من شدة الصعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الفزع والرعب، فضلاً عما هم فيه من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر.
وبهذه النفخة يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ» قَالُوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ! أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أبَيْتُ؟ قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أبَيْتُ «ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ».
ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].
ثم انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر، أرض بيضاء، وقاع صفصف، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، لا ترى فيها ربوة يختفي الإنسان وراءها، ولا وهدة ينخفض عن الأعين فيها، بل هي صعيد واحد لا تفاوت فيه، يساقون إليه زمراً، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إلى أرض المحشر، لا يتخلف منهم أحد: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} ... [الكهف: 47].
فأحضر قلبك، وانظر إلى صورتك وأنت واقف هناك عارياً ذليلاً، متحيراً بهوتاً، وجلاً خائفاً، منتظراً لما سوف يجري عليك وعلى غيرك من القضاء بالسعادة، أو الشقاوة الأبدية.
يستقبلك يوم عظيم شأنه .. ترى فيه السماء قد انفطرت .. والكواكب من هوله انتثرت .. والنجوم قد انكدرت .. والشمس قد كورت .. والجبال قد سيرت .. والبحار قد سجرت .. والجحيم قد سعرت .. والجنة قد أزلفت .. يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات .. يوم تحمل فيه الأرض والجبال فتدك دكة واحدة .. يوم ترجّ فيه الأرض رجّاً .. وتبسّ الجبال بسّاً .. يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث .. يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت .. وتضع كل ذات حمل حملها: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2].
يومٌ لا يُسأل أحد عن ذنبه من إنس ولا جان، ولا يُسأل فيه عن ذنوبهم المجرمون، بل يؤخذ فيه بالنواصي والأقدام: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30].
يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت.
والناس بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم.
فتأمل حالك أمامه .. وما يحل بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودقته .. ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته .. والناس يتعاوون فيها ويبكون .. ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها .. وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك .. واضطراب قلبك .. وتزلزل قدمك .. وثقل ظهرك بالأوزار والذنوب.
فكيف حالك عند عبور الصراط .. وأنت ترى الخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون .. وتتناولهم زبانية النار بالكلاليب والخطاطيف .. وأنت تراهم ينتكسون على وجوههم في النار .. وتعلو أرجلهم .. والنار تغلي بهم .. تشوي وجوههم .. وتحرق أجسادهم .. وتقطع أمعاءهم.
فيا له من منظر ما أفظعه .. ومرتقى ما أصعبه .. ومجاز ما أضيقه .. وهول ما أفزعه.
فانظر إلى حالك وأنت تعبر الصراط وتزحف عليه .. وأنت مثقل الظهر بأوزارك .. تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار.
والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم، لكثرة من زل عن الصراط من الخلائق.
فكيف بك لو زلت قدمك .. ووقَعْتَ في قعر جهنم .. ووقع بك ما كنت تخافه .. وأنت تنادي يا ليتني قدمت لحياتي .. يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ... يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً .. يا ليتني كنت تراباً .. يا ليتني كنت نسياً منسياً.
فكيف ترى أيها العبد عقلك الآن .. وهذه الأخطار بين يديك .. فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم؟.
وإن كنت مؤمناً وعنه غافلاً فما أعظم خسرانك وطغيانك؟.
وتأمل في أحوال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها ينتظرون حقيقة أنبائها، وشفاعة شفعائها، إذا أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات لهب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وشهيقاً.
فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، وجاءت الزبانية بمقامع من حديد، لتأخذ كل مجرم إلى العذاب الشديد، فينكسونه في قعر جهنم ويقولون له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49].
وأسكن أهل النار داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، يوقد فيها السعير، ويسقى فيها الحميم، يحشرون إليها عمياً وبكماً وصماً.
ويكبون فيها على وجوههم، مغلولين مقرنين في الأصفاد.
النار من فوقهم ومن تحتهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم .. تغلي بهم النار كغلي القدور، ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم .. فيتفجر الصديد من أفواههم .. وتتقطع من العطش أكبادهم .. وتسقط من الإحراق لحومهم وشعورهم.
كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56].
وهم في تلك الأهوال والمواقف صمُّ بكمٌ عميٌ .. يبكون ويصيحون .. وهم يمشون في النار على وجوههم .. لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون .. قد غُلَّت أيديهم إلى أعناقهم .. وجُمع بين نواصيهم وأقدامهم.
طعامهم الزقوم، والصديد، والضريع .. وشرابهم الحميم والغساق وفرشهم من نار .. ولباسهم من نار: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج: 19 - 22].
فما أعظم هذه الأحوال والأهوال، وما أشد حسرات أهل النار.
فهل نقبل هذا الإنذار، ونستعد لذلك الموقف الرهيب؟.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} ... [مريم: 39].
وهذه الدار التي عَرَفْت همومها وغمومها وشدة عذابها، تقابلها دار أخرى، وهي دار النعيم، ودار السلام، دار المتقين.
ومن لم يدخل هذه الدار استقر لا محالة في الدار الأخرى.
وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل طاعته وعبادته بدخول الجنة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57].
فتفكر في أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم.
في وجوههم نضرة النعيم .. يسقون من رحيق مختوم .. ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق .. يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير.
متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل والماء واللبن، محفوفة بالغلمان والولدان كما قال سبحانه: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} ... [الإنسان: 19].
يطوف عليهم في تلك الجنان ولدان مخلدون بأكواب وأباريق، وكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، وجنانهم مزينة بالحور العين للتنعم والاستمتاع .. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان .. كأنهن الياقوت والمرجان ... كأمثال اللؤلؤ المكنون .. خيرات حسان .. يمشين في درجات الجنان .. عليهن من الحرير الأبيض وفاخر اللباس ما تتحير فيه الأبصار .. مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان.
عطرات آمنات من الهرم والبؤس .. حور مقصورات في الخيام .. قاصرات الطرف عين.
يطوف على أهل الجنة ويخدمهم ولدان مخلدون كأمثال اللؤلؤ المكنون .. وأهلها جالسون على منابر الياقوت الأحمر .. في خيام واسعة من اللؤلؤ ... وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها .. وبسطهم من العبقري الأخضر.
وهم في الجنة خالدون .. في مقعد صدق عند مليك مقتدر .. ينظرون فيها إلى وجه الرب الملك الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23].
فهم عباد مكرمون .. وفيما اشتهت أنفسهم خالدون .. لا يخافون فيها ولا يحزنون .. وهم من ريب المنون آمنون .. فهم فيها يتنعمون .. ويأكلون من ألوان الطعام .. ويشربون من أنهار الخمر والعسل والماء واللبن.
ويسكنون في جنة أرضها المسك والكافور .. وبناؤها لبنة من فضة، ولبنة من ذهب .. وحصباؤها اللؤلؤ والمرجان .. وترابها الزعفران والدر والياقوت .. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية: 8 - 16].
فيا له من نعيم ما أكمله .. ويا له من سرور ما أعظمه .. ويا له من خير ما أدومه .. فليسعد بذلك ويهنأ به من آمن بالله رباً .. وبالإسلام ديناً .. وبمحمد (رسولاً: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].
يا حسرة على العباد .. كيف يفرطون في هذا النعيم المقيم والملك الكبير؟.
إن الواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن، والغرف المزينة المزخرفة، والخيام الفخمة الواسعة، ما لا يدركه الوصف ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة والرياض الزاهرة، والأنهار الجارية، ما يأخذ القلوب، ويفرح النفوس، ويبهر العقول.
وعنده من الزوجات اللاتي هن في غاية الجمال والحسن والإحسان، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً.
وحوله من الولدان المخلدين، والخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش، وتكمل الغبطة.
وفوق ذلك كله الفوز برضى الرب الرحيم، وسماع كلامه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين. كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} ... [التوبة: 72].
فيا له من نعيم ما أتمه وما أكمله، ويا له من مُلك ما أوسعه؟
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 20 - 22].
فهذه حال العباد يوم القيامة، وهذه مساكنهم، وهم بحسب أعمالهم إليها راجعون: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].
إن التكاثر في الأموال والأولاد واتباع الشهوات شغل أهل الدنيا، وألهاهم عن الله والدار الآخرة، حتى حضرهم الموت وهم غافلون عما به فوزهم وفلاحهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 1 - 8].
ᴛʜᴇ ʀᴇᴅ ғʟᴏωᴇʀ- نجم ستارديس
- تاريخ التسجيل : 29/08/2018المساهمات : 3052نقاط التميز : 5482الجنس :العمر : 25الأبراج :
رد: فقه البعث والحشر
بارك الله فيك وجزاك خيرا
التوقيع
_________________
Derraz Boujemaa- مؤسس ستار ديس
- تاريخ التسجيل : 20/08/2018المساهمات : 5189نقاط التميز : 9415الجنس :
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى