رسالة لطيفة للمتزوجين
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
رسالة لطيفة للمتزوجين
رسالة لطيفة للمتزوجين
إنَّ الحمد لله، نحمَده تعالى ونَستعينُه ونستهديه، ونَعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله تعالى فلا مضلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه.
أيُّها الإخوة والأخوات، اسمعوا وعوا:
حديثُنا اليوم عن الزَّواج ومرحلته الأولى؛ نظرًا لأهمّيَّة هذه المرحلة ودوْرها في ترتيب الحياةِ في البَيْت الجديد إلى آخِر العمر، لكنَّنا سنختصُّ بالحديث العلاقةَ الثنائية دون الخوض في العوامِل الخارجة عن الطَّرفين، فلهذا مقام آخر.
فالزَّواج ليس مجرَّد انتِقال من حال مؤقَّت لحال مؤقَّت آخر، الزَّواج انتِقال من حالٍ مؤقَّت لحياة كاملة، ننتقِل فيها – أي: الرَّجُل والمرْأة - من خانة عدم التقيُّد بشيءٍ - مهما كانت الحياة في بيت الأهل أو بغير زواج - إلى خانة المسؤوليَّة الكاملة عن كلِّ شيء.
فالرَّجُل بعد أن كان يأخُذ "مصروفًا"، أو يعمل ليُنْفِق على نفسِه وقد يُساهم أو لا يُساهم في بيْت أهله، صار اليوم مسؤولاً عن بيتٍ كامل، عليه أن يُنفق عليْه ويتحمَّل كلَّ كبيرةٍ وصغيرة فيه، هذا بندُ النَّفقة، والبنود كثيرة في الحياة الزوجيَّة.
والمرأة بعد أن كانت تُساهم في البيت مع أمِّها وأخواتها بترْتيب أو تنظيم أو طبْخ، أو لا تُساهم أصلاً، صارتْ مسؤولةً بشكْل كامل عن بيتٍ وحدها - ولو كان معها خادم فهي أيضًا مسؤولة بالكامل؛ فالخادم لن يدير البيت - وهذا بندٌ واحد أيضًا في الحياة الزَّوجيَّة، والبنود كثيرة.
ونظرًا للتَّربية الخاطِئة المنتشرة في البيوت، فإنَّ الغالب ألاَّ يكون أيّ الزَّوجين معدًّا لهذه المسؤوليَّة بصورة صحيحة، اللَّهُمَّ إلاَّ القليل.
فالواقع أنَّ أوَّل الزَّواج يحدث اصطدام كوْني رهيب بين الفردَين، يُشبه اصطِدام كوكب بكوكب آخر، وهذا على جَميع المستويات، بدءًا من كوب الشَّاي والماء، إلى جَميع الأنشِطة الحياتيَّة اليوميَّة.
وينقشِع الغبار الكوْني المتناثر من هذا الاصطِدام الرَّهيب عن كوكبٍ صغير جديد، يبدأ الحياة ليزدادَ يومًا بعد يوم وتتْبعه أقمار ويدور في فلَك.
ويُمثِّل العام الأوَّل من الزَّواج أكثرَ الأعْوام مشاكلَ وأرقًا بين الزَّوجين - إلاَّ مَن رحم ربِّي - لأنَّه مع الصدام النَّاشئ عن الاختِلاف في التَّربية يُضاف الضَّغط النَّفسي النَّابع من الأعْباء الجديدة، فيجتمع العاملان كأشدّ ما يكون في العام الأوَّل ليكون الصدام مروعًا.
وأنا أجزِم لكلِّ زوْجٍ وزوجة ممَّن تزوَّج حديثًا أنَّ: كلَّ هذه المشاكل التي تبْدو اليوم عقبةً ليس لها حلّ وتنغِّص العيش، ستصير بعدَ أقلَّ من عامٍ هباءً منثورًا لا قيمةَ له، وأحيانًا يَصير هذا بغير عمَل من الزّوج، فقطْ هي الألفة والمودّة التي أذابت الصخور الفولاذيّة التي ظننَّاها يومًا لن تنزاح.
ويُشَبّه البعض الحياةَ الزَّوجيَّة بحجرَين صلبين، العام الأوَّل يظلّ الحجران يحتكُّ أحدُهما بالآخَر احتكاكًا قد ينتج عنه شررٌ في بعض الأحيان، وقد تشتعل النَّار، فإذا احترق أحدُ الحجرين أو كلاهما فشلت الحياة الزَّوجيَّة، أمَّا مع ثبات الحجَر واستِمْراره في الاحتِكاك برقَّة قد لا تنتج نار أو تنتج نار ضعيفة - بحسب الظُّروف الخارجة عن الزَّوجين والَّتي لن نتناولَها في هذا المقال - حتَّى نجد في النِّهاية أنَّ الحجرين صارا أملسَين من جَميع الجوانب، وصارا قادِرَين على البقاء مُتلاصقَين بغير مسافات كأنَّهما كتلة واحدة، فهذه هي الحياة الزَّوجية النَّاجحة.
فلا بدَّ أن يدرك كلا الطَّرفين أنَّ المشاكل واردة جدًّا، وأنَّها عرض طبيعي بل صحّي تمامًا، وأهمّ علاج هو العطاء، فعلى كلا الطَّرفين أن يعطي، لا أن يُطالِب الطَّرف الآخَر بالعطاء، يُعْطِي حنانًا، محبَّة، بسمة، هديَّة يسيرة، اجتهادًا في المسؤوليَّة ... إلخ.
وفي حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمثلةٌ كثيرة على هذا العطاء؛ فهذا حديث البُخاري: عَن الأسْوَد قالَ: سَألْتُ عَائِشَةَ: ما كانَ النَّبِيُّ - صلَّى اللَّهُ عَليْه وسلَّم - يصْنَعُ في أهْلِه؟ قالَتْ: "كانَ في مِهْنةِ أهْلِه، فإذا حَضَرَت الصَّلاةُ قامَ إلى الصَّلاة"؛ كتاب الأدب، باب: كيف يكون الرَّجُل في أهله؟
وجاء في شرح ابن حجر: قَوْله: "في مِهْنة أهْله": المِهْنة بِكَسْرِ الميم وبِفَتْحِها، وأنْكَرَ الأصْمَعِيُّ الكَسْر، وفسَّرَها هُناكَ بِخِدْمةِ أهْله .... وقَدْ وَقَعَ في حَديث آخَر لِعائِشة أخْرَجَهُ أحْمَد وابْن سَعْد، وصَحَّحَهُ ابْن حِبَّان، مِن رِواية هِشام بْن عُرْوَة عنْ أبِيه: قُلْت لِعائِشَة: ما كانَ رَسُول اللَّه - صلَّى اللَّه عَليْهِ وسلَّم - يَصْنَع في بَيْته؟ قالَت: "يَخِيط ثَوْبه، ويَخْصِف نَعْله، ويَعْمَل ما يَعْمَل الرِّجال في بُيُوتهم".
وفي رِواية لابْنِ حِبَّان: "ما يَعْمَل أحَدُكُمْ في بَيْته"، ولَهُ ولأحْمَد مِنْ رِوايَة الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة عَن عائِشة: "يَخْصِف نَعْله، ويَخِيط ثَوْبه، ويُرَقِّع دَلْوه".
ولَهُ مِنْ طَرِيق مُعاوِية بْن صَالِح، عَنْ يَحْيَى بْن سَعيد، عَنْ عَمْرة عَن عَائِشة، بِلَفْظ: "ما كانَ إلاَّ بَشَرًا مِن البَشَر، كانَ يُفَلِّي ثَوْبه، ويَحْلُب شاته، ويَخْدُم نَفْسه".
وأخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ في "الشَّمَائِل" وَالبَزَّارُ، وقالَ: ورُوِيَ عَن يَحْيَى عَن القاسِم عَن عائِشة، ورُوِيَ عَن يَحْيَى عَن حُمَيْدٍ المَكِّيِّ عَنْ مُجَاهِد عَن عَائِشة، وفي رِواية حارِثَة بْن أبي الرِّجال عَن عَمْرَة عَن عائِشة عِنْدَ أبي سَعْد: "كانَ ألْيَن النَّاس، وأكْرَم النَّاس، وكان رَجُلاً مِن رِجالكُمْ إلاَّ أنَّهُ كان بسَّامًا".
قالَ ابْن بَطَّال: مِن أخْلاق الأنْبِياء: التَّوَاضُع، والبُعْد عَن التَّنَعُّم، وامْتِهَان النَّفْس لِيسْتَنَّ بِهِم ولئَلاَّ يَخْلُدُوا إلى الرَّفَاهِيَة المَذْمومة، وقَدْ أُشِيرَ إلى ذَمِّهَا بِقَوْلِه تَعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11]". اهـ. من "فتح الباري".
وأهمّ شيءٍ في هذه العام الأوَّل هو هذا الإدراك، ومُحاولة كلّ واحدٍ التقرُّب إلى الآخر باللُّطْف والتلطُّف، والتَّنازل تارةً والنِّقاش تارةً، مع مُراعاة كلٍّ منهُما للتوتُّر الَّذي يصحب هذه الفترة التي هي انتِقال من اللاَّمسؤوليَّة أو المسؤوليَّة النَّاقصة، إلى مسؤوليَّة كاملة بغير قيْدٍ ولا شرط.
لوِ استشعر كلُّ واحد هذا الانتِقال، وأحسَّ برفيقِه وتفهَّم هذه المسألة، لانخفضَ عددُ المشاكل إلى النِّصْف، لكنَّ ثقافة شَباب اليوم جعل أقْرب الحلول الطَّلاق والمفارقة، وسرعة الخطأِ في اللَّفْظ وفحشه.
ولو عاهدَ كلٌّ منهما نفسَه قبل رفيقه على إزالة كلِمة (طلاق) من ذِهْنِه، وأنَّ هذا الرَّفيق هو رفيق العمر، وهذا البيْت هو بيته ومستقرُّه في الدُّنيا، مع شفقة كلٍّ منهُما على الآخر لَحافَظَ كلٌّ منهُما على مشاعر رفيقِه ورهافة حسِّه، وابتعدَ عن الفحشِ في القوْل والإهانة في الفعل.
وانظر إلى هذا الحديث:
عَن المِقْدامِ بن مَعْدِي كَرِب - رضِيَ الله عَنْه -: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم - قامَ في النَّاسِ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عليْه، ثُمَّ قال: ((إنَّ اللَّهَ يُوصِيكُم بِالنِّساءِ خَيْرًا، إنَّ اللَّهَ يُوصِيكُم بِالنِّساءِ خَيْرًا، فإنَّهُنَّ أُمَّهاتُكُمْ وبَناتُكُمْ وخالاتُكُمْ، إنَّ الرَّجُلَ مِن أهْلِ الكِتابِ يَتَزَوَّجُ المَرْأةَ وما تُعَلِّقُ يَداها الخَيْطَ، فما يَرْغَبُ واحِدٌ مِنْهُما عَنْ صاحِبِه حَتَّى يَمُوتا هَرَمًا))؛ أخرجه الطبراني (20 /274 رقم 648)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (18 /45 /1 - 2)، وصحَّحه الألبانيُّ في "إرْواء الغليل" (7 /42)، وصحَّحه الإمام الألباني في "السلْسلة الصحيحة" (6 /873).
فما أجمل هذا النَّصَّ في الوصيَّة بين الزَّوجين! ووجه الكلام للرجُل لأنَّه عماد البيت والقائم عليه، فإن صلح وأصلح انصلح حال البيت، وإن فسد وأفسد فسد البيت، وقسوته ورحمته أبْلغ في التعبير من قسوة المرأة ورحمتها، وتنازُله ولين جانبه تنازُل القويّ القادر المتحكِّم في البيت، أمَّا تنازُل المرأة فهو قد يكونُ أحيانًا تنازُل الضَّعيف الذي لا يملك إلاَّ التَّنازُل[1].
ثمَّ يَضرب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المثَلَ بالنَّصارى الَّذين كانوا يحرمون الطلاق، فلا يَخطر ببال أحدهِما أنَّه مفارق للآخر، فيصبر كلاهما حتَّى الموت، فالمسلم أوْلى بهذا فعنده من الدَّوافع للحفاظ على بيتِه المسلم ما ليس عند النَّصراني، وعنده من الإيمان في القلْب ما يُعين على مواجهة المصاعب مع الاستعانة بالله، فأحْرى به أن يصبر على زوجتِه، فإنْ كرِهَ منها خلقًا رضِي منها آخر؛ فالطَّلاق بغيضةٌ آثَاره وإن كان في بعْض الأحيان حلاًّ لا بدَّ منْه؛ ولِهذا فمِن رحمة الله أن شرَعَه بشروطِه المعْروفة في كتب الفقه.
ولكن ليس معنى أنَّ الإسلام أباح الطَّلاق أنَّه جعله حلاًّ سريعًا لكلّ المشاكل؛ لأنَّ النُّصوص اجتمعت على الوعيد الشَّديد لمن ضيَّع الرعيَّة، ومنها هذا الحديث في البُخاري: حدَّثَنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثَنا أبو الأشْهَب، عَن الحَسَنِ: أنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيادٍ عادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسارٍ في مَرَضِه الَّذِي ماتَ فِيه، فقالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إنِّي مُحَدِّثُكَ حَديثًا سَمِعْتُه مِن رَسولِ اللَّه - صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم - سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم - يَقولُ: ((ما مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فلَمْ يَحُطْها بِنَصِيحَةٍ إلاَّ لَمْ يَجِدْ رائِحةَ الجَنَّة))؛ كتاب الأحكام، باب مَن استرعى رعيَّة فلم ينصح.
إنَّ الطَّلاق في هذا الزَّمان بالذَّات ضياع للأسرة، لاسيَّما لو كان هناك أطفال، فاستقرار الأسرة وثباتها يَحتاج لجهد واجتهاد وصبر ومثابرة، حتَّى إذا كان الطَّلاق هو المصْلحة الرَّاجحة بَحثْنا عنْه، أمَّا أن يكون الطَّلاق هو الأقْرب والأسْهل في الحلّ، فهذا خُلُق أناني من أحَد الطَّرفين، وأحيانًا من كليهِما.
فكيف يفكِّر زوجٌ أو تفكِّر زوجة في أوَّل شهر من الزَّواج عند أوَّل بادرة لمشْكِلة في الطَّلاق؟! إنَّ هذا من الحمْق ولا شكَّ؛ لأنَّ المشاكل ستحدُث وتتكرَّر، فحتَّى بين الإخوة من أبناء البيْت الواحد يحدث الشَّحناء والاختلاف، لكن سكّين الأهل - والزَّوجان صارا أسرة واحدة - باردة لا تذبح، والزَّمن يُداوي كثيرًا من الجراح، لكن الحذَر الحذَر ممَّن أصرَّ على سنِّ السكِّين حتَّى صارتْ حادَّة تقطع الرّقاب!
فإن كان الزَّوج والزَّوجة كلاهما كانت تقَع المشاكل بينه وبين إخوانه في بيْت أهله، بل بيْنه وبين أبيه وأمِّه وهو قطعة من جسدهما، فكيْف بِهِما مع رفيق غريب لم يتعارفا ولَم يتآلفَا؟! ولكن جعل الله بيْنهما المودَّة والرَّحمة؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 30]، فإذا التزماها التزمتهما.
فالمودَّة هي الحبّ الَّذي به ينصهر الصّعاب والمشاكل في بوْتقة من الأُلْفة والاحتِمال، والرَّحمة هي الشَّفقة واللّين للآخر.
فما أحسن أن يكون الزَّوج: "إنْ دَخَلَ فَهِدَ، وإنْ خَرَجَ أسِدَ، ولا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِد[2]!
وجاء في شرح النووي: "هذا أيضًا مدح بليغ، فقولها: فهِد - بفتْح الفاء وكسر الهاء - تصِفُه إذا دخل البيت بكثْرة النَّوم والغفلة في منزله عن تعهُّد ما ذهب من متاعه وما بقي، وشبَّهته بالفهْد لكثرة نومه، يقال: أنوم من فهد، وهو معنى قولها: (ولا يسأل عمَّا عهِد)؛ أي: لا يسأل عمَّا كان عهده في البيت من ماله ومتاعه، وإذا خرج أسِد - بفتح الهمزة وكسر السين - وهو وصفٌ له بالشَّجاعة، ومعناه: إذا صار بين النَّاس أو خالط الحرْب كان كالأسد". اهـ من شرح النَّووي.
فلوْ تغافل كلٌّ من الزَّوجين عن عيوب رفيقِه، والتمس له الأعذار، وقلَّل من نقْدِه واعتراضه على رفيقه، فإنَّ كثرة النَّقد تثير الضَّغائن، وبالتَّغاضي عن الزَّلل تصير الحياة الزوجيَّة جنَّة الدنيا، وكما قال الشَّاعر:
أَقْلِلْ عِتَابَكَ فَالبَقَاءُ قَلِيلُ وَالمَرْءُ يَعْدِلُ تَارَةً وَيَمِيلُ
فها هنا طِيب الكلام وحُسْن العِشْرة والوئام قد اجتمعا مع التَّغاضي والإحسان، وبهذا يمرّ العام الأوَّل وقد صار الحجران أملسَين كأحسنِ ما يكون، بل انصهَرَا في بوتقة واحدة من الودّ والرَّحمة، وانظر إلى هذا المقطع من حادث الإفك المشْهور، وهذا لفظ البخاري:
"فدعا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بَريرةَ، فقال: ((أي بريرةُ، هل رأيتِ من شيء يَريبُك؟)) قالت له بريرة: والَّذي بعثَكَ بالحقِّ ما رأيت عليْها أمرًا قطّ أغمصُه، غير أنَّها جاريةٌ حديثةُ السّنِّ تنام عن عجين أهلِها، فتأتي الدَّاجن فتأكله".
ورغْم هذا العيبِ الَّذي ذكرته بريرةُ في السيدة عائشة غير أنَّها كانت أحبَّ نسائِه إليه، ولم يخجل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو الحييّ كالعذراء في خدرها بل أشد - أن يَجهر بحبِّه لها أمام رجُل آخر، وها قد انتشر الحديثُ فينا، فكم رجُلٍ قرأَه! وكم رجُل سمعه!
ففي البخاري – المناقب -: عَن أبي عُثْمانَ قال: حدَّثَني عَمْرُو بْنُ العاصِ - رضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّ النَّبِيَّ - صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسلَّم - بَعَثَهُ على جَيْشِ ذاتِ السّلاسِل، فأتَيْتُه فقُلْتُ: أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيْك؟ قالَ: ((عائِشةُ))، فقُلْتُ: مِن الرِّجالِ؟ فقالَ: ((أبُوها)) قُلْتُ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: ((ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب))، فَعَدَّ رِجالاً.
ولوِ استقصيْنا أحوال النَّبيّ - صلَّى لله عليه وسلَّم - مع أزْواجه، لطال الحديث، فانظر مأجورًا غير مأمور كتابَ "المسند الصَّحيح في الشَّمائل المحمديَّة" لأمّ عبد الله الوادعيَّة.
إذًا؛ نُجْمِل النُّصح لِمَن تزوَّج حديثًا في الآتي:
فهْم الحياة الزَّوجيَّة ومسؤوليَّاتها، وتقْدير ذلك بعقلانيَّة؛ فهي ليستْ نزهةً ولا صداقة نقْضي فيها أيَّامًا للَّعب والمرَح، حتَّى إذا جدَّ الجِدُّ صدمنا الواقع المرير وهربنا من المسؤوليَّات الجسيمة.
ومن الأوَّل يتولَّد الثَّاني، وهو الشَّفقة على الرَّفيق ممَّا ألمَّ بِكلٍّ منهما من مشقَّة الانتِقال من حالٍ إلى حال، ومن ثمَّ التماس الأعْذار والتَّغاضي عن العيوب والإحسان إلى الرَّفيق.
الودّ والرَّحمة بين الزَّوجين، وتلطُّف كلٍّ منهُما لصاحبه، واختِيار الألفاظ الحسنة والأفعال الطيِّبة لإهدائها لرفيق العمر، ومن أهمّ هذه الأفْعال التودُّد لأهل كلٍّ منهما.
توْطين النفس على أنَّ هذه هي حياتنا ليس لنا مخرج منها إلاَّ بالموت، فالطَّلاق ليس الحلَّ الأقْرب، بل هو غير واردٍ في تلك الحياة الجديدة، إلاَّ إذا لم يكُن ثمَّ غيره يصلح كحلٍّ.
مُحاولة تخفيف الجفاف والإحباط الذي يحلّ كثيرًا في الحياة الزَّوجيَّة بشيءٍ من التَّغْيير - ولو يسيرًا - فالحياة قصيرةٌ، فلا ينبغي أن نحوِّلها جحيمًا أوَّل مَن يعذّب به هو مَن أشعله.
فها هي السَّعادة قريبة وليست بعيدة، ولا يقل أحدُنا: ليس العيب منّي بل من رفيقي، فابدأْ بنفسك مع رفيقك، ولا تقُل: يجب أن يبدأ هو، فالأمر ليس حربًا نُريد أن نكون نحن الفائِزِين فيها، بل هي معاشرة بالحُسْنى وحياة جميلة نَعيشها مرَّة واحدة، والفائز فيها ليْس مَن غلَب رفيقَه، بل مَن فاز برفيقه وحبِّه واحترامه.
وقد يكون أحَدُ الزَّوجين أكثر محاولةً من الآخَر، وقد يَجد أحدُهُما صدًّا من صاحبِه، فهذا يَحتاج إلى نصائحَ أزْيَدَ ممَّا سبق، لكن لا يختلف اثْنان عن أهمّيَّة ما سبق.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 30].
إنَّ الحمد لله، نحمَده تعالى ونَستعينُه ونستهديه، ونَعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله تعالى فلا مضلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه.
أيُّها الإخوة والأخوات، اسمعوا وعوا:
حديثُنا اليوم عن الزَّواج ومرحلته الأولى؛ نظرًا لأهمّيَّة هذه المرحلة ودوْرها في ترتيب الحياةِ في البَيْت الجديد إلى آخِر العمر، لكنَّنا سنختصُّ بالحديث العلاقةَ الثنائية دون الخوض في العوامِل الخارجة عن الطَّرفين، فلهذا مقام آخر.
فالزَّواج ليس مجرَّد انتِقال من حال مؤقَّت لحال مؤقَّت آخر، الزَّواج انتِقال من حالٍ مؤقَّت لحياة كاملة، ننتقِل فيها – أي: الرَّجُل والمرْأة - من خانة عدم التقيُّد بشيءٍ - مهما كانت الحياة في بيت الأهل أو بغير زواج - إلى خانة المسؤوليَّة الكاملة عن كلِّ شيء.
فالرَّجُل بعد أن كان يأخُذ "مصروفًا"، أو يعمل ليُنْفِق على نفسِه وقد يُساهم أو لا يُساهم في بيْت أهله، صار اليوم مسؤولاً عن بيتٍ كامل، عليه أن يُنفق عليْه ويتحمَّل كلَّ كبيرةٍ وصغيرة فيه، هذا بندُ النَّفقة، والبنود كثيرة في الحياة الزوجيَّة.
والمرأة بعد أن كانت تُساهم في البيت مع أمِّها وأخواتها بترْتيب أو تنظيم أو طبْخ، أو لا تُساهم أصلاً، صارتْ مسؤولةً بشكْل كامل عن بيتٍ وحدها - ولو كان معها خادم فهي أيضًا مسؤولة بالكامل؛ فالخادم لن يدير البيت - وهذا بندٌ واحد أيضًا في الحياة الزَّوجيَّة، والبنود كثيرة.
ونظرًا للتَّربية الخاطِئة المنتشرة في البيوت، فإنَّ الغالب ألاَّ يكون أيّ الزَّوجين معدًّا لهذه المسؤوليَّة بصورة صحيحة، اللَّهُمَّ إلاَّ القليل.
فالواقع أنَّ أوَّل الزَّواج يحدث اصطدام كوْني رهيب بين الفردَين، يُشبه اصطِدام كوكب بكوكب آخر، وهذا على جَميع المستويات، بدءًا من كوب الشَّاي والماء، إلى جَميع الأنشِطة الحياتيَّة اليوميَّة.
وينقشِع الغبار الكوْني المتناثر من هذا الاصطِدام الرَّهيب عن كوكبٍ صغير جديد، يبدأ الحياة ليزدادَ يومًا بعد يوم وتتْبعه أقمار ويدور في فلَك.
ويُمثِّل العام الأوَّل من الزَّواج أكثرَ الأعْوام مشاكلَ وأرقًا بين الزَّوجين - إلاَّ مَن رحم ربِّي - لأنَّه مع الصدام النَّاشئ عن الاختِلاف في التَّربية يُضاف الضَّغط النَّفسي النَّابع من الأعْباء الجديدة، فيجتمع العاملان كأشدّ ما يكون في العام الأوَّل ليكون الصدام مروعًا.
وأنا أجزِم لكلِّ زوْجٍ وزوجة ممَّن تزوَّج حديثًا أنَّ: كلَّ هذه المشاكل التي تبْدو اليوم عقبةً ليس لها حلّ وتنغِّص العيش، ستصير بعدَ أقلَّ من عامٍ هباءً منثورًا لا قيمةَ له، وأحيانًا يَصير هذا بغير عمَل من الزّوج، فقطْ هي الألفة والمودّة التي أذابت الصخور الفولاذيّة التي ظننَّاها يومًا لن تنزاح.
ويُشَبّه البعض الحياةَ الزَّوجيَّة بحجرَين صلبين، العام الأوَّل يظلّ الحجران يحتكُّ أحدُهما بالآخَر احتكاكًا قد ينتج عنه شررٌ في بعض الأحيان، وقد تشتعل النَّار، فإذا احترق أحدُ الحجرين أو كلاهما فشلت الحياة الزَّوجيَّة، أمَّا مع ثبات الحجَر واستِمْراره في الاحتِكاك برقَّة قد لا تنتج نار أو تنتج نار ضعيفة - بحسب الظُّروف الخارجة عن الزَّوجين والَّتي لن نتناولَها في هذا المقال - حتَّى نجد في النِّهاية أنَّ الحجرين صارا أملسَين من جَميع الجوانب، وصارا قادِرَين على البقاء مُتلاصقَين بغير مسافات كأنَّهما كتلة واحدة، فهذه هي الحياة الزَّوجية النَّاجحة.
فلا بدَّ أن يدرك كلا الطَّرفين أنَّ المشاكل واردة جدًّا، وأنَّها عرض طبيعي بل صحّي تمامًا، وأهمّ علاج هو العطاء، فعلى كلا الطَّرفين أن يعطي، لا أن يُطالِب الطَّرف الآخَر بالعطاء، يُعْطِي حنانًا، محبَّة، بسمة، هديَّة يسيرة، اجتهادًا في المسؤوليَّة ... إلخ.
وفي حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمثلةٌ كثيرة على هذا العطاء؛ فهذا حديث البُخاري: عَن الأسْوَد قالَ: سَألْتُ عَائِشَةَ: ما كانَ النَّبِيُّ - صلَّى اللَّهُ عَليْه وسلَّم - يصْنَعُ في أهْلِه؟ قالَتْ: "كانَ في مِهْنةِ أهْلِه، فإذا حَضَرَت الصَّلاةُ قامَ إلى الصَّلاة"؛ كتاب الأدب، باب: كيف يكون الرَّجُل في أهله؟
وجاء في شرح ابن حجر: قَوْله: "في مِهْنة أهْله": المِهْنة بِكَسْرِ الميم وبِفَتْحِها، وأنْكَرَ الأصْمَعِيُّ الكَسْر، وفسَّرَها هُناكَ بِخِدْمةِ أهْله .... وقَدْ وَقَعَ في حَديث آخَر لِعائِشة أخْرَجَهُ أحْمَد وابْن سَعْد، وصَحَّحَهُ ابْن حِبَّان، مِن رِواية هِشام بْن عُرْوَة عنْ أبِيه: قُلْت لِعائِشَة: ما كانَ رَسُول اللَّه - صلَّى اللَّه عَليْهِ وسلَّم - يَصْنَع في بَيْته؟ قالَت: "يَخِيط ثَوْبه، ويَخْصِف نَعْله، ويَعْمَل ما يَعْمَل الرِّجال في بُيُوتهم".
وفي رِواية لابْنِ حِبَّان: "ما يَعْمَل أحَدُكُمْ في بَيْته"، ولَهُ ولأحْمَد مِنْ رِوايَة الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة عَن عائِشة: "يَخْصِف نَعْله، ويَخِيط ثَوْبه، ويُرَقِّع دَلْوه".
ولَهُ مِنْ طَرِيق مُعاوِية بْن صَالِح، عَنْ يَحْيَى بْن سَعيد، عَنْ عَمْرة عَن عَائِشة، بِلَفْظ: "ما كانَ إلاَّ بَشَرًا مِن البَشَر، كانَ يُفَلِّي ثَوْبه، ويَحْلُب شاته، ويَخْدُم نَفْسه".
وأخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ في "الشَّمَائِل" وَالبَزَّارُ، وقالَ: ورُوِيَ عَن يَحْيَى عَن القاسِم عَن عائِشة، ورُوِيَ عَن يَحْيَى عَن حُمَيْدٍ المَكِّيِّ عَنْ مُجَاهِد عَن عَائِشة، وفي رِواية حارِثَة بْن أبي الرِّجال عَن عَمْرَة عَن عائِشة عِنْدَ أبي سَعْد: "كانَ ألْيَن النَّاس، وأكْرَم النَّاس، وكان رَجُلاً مِن رِجالكُمْ إلاَّ أنَّهُ كان بسَّامًا".
قالَ ابْن بَطَّال: مِن أخْلاق الأنْبِياء: التَّوَاضُع، والبُعْد عَن التَّنَعُّم، وامْتِهَان النَّفْس لِيسْتَنَّ بِهِم ولئَلاَّ يَخْلُدُوا إلى الرَّفَاهِيَة المَذْمومة، وقَدْ أُشِيرَ إلى ذَمِّهَا بِقَوْلِه تَعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11]". اهـ. من "فتح الباري".
وأهمّ شيءٍ في هذه العام الأوَّل هو هذا الإدراك، ومُحاولة كلّ واحدٍ التقرُّب إلى الآخر باللُّطْف والتلطُّف، والتَّنازل تارةً والنِّقاش تارةً، مع مُراعاة كلٍّ منهُما للتوتُّر الَّذي يصحب هذه الفترة التي هي انتِقال من اللاَّمسؤوليَّة أو المسؤوليَّة النَّاقصة، إلى مسؤوليَّة كاملة بغير قيْدٍ ولا شرط.
لوِ استشعر كلُّ واحد هذا الانتِقال، وأحسَّ برفيقِه وتفهَّم هذه المسألة، لانخفضَ عددُ المشاكل إلى النِّصْف، لكنَّ ثقافة شَباب اليوم جعل أقْرب الحلول الطَّلاق والمفارقة، وسرعة الخطأِ في اللَّفْظ وفحشه.
ولو عاهدَ كلٌّ منهما نفسَه قبل رفيقه على إزالة كلِمة (طلاق) من ذِهْنِه، وأنَّ هذا الرَّفيق هو رفيق العمر، وهذا البيْت هو بيته ومستقرُّه في الدُّنيا، مع شفقة كلٍّ منهُما على الآخر لَحافَظَ كلٌّ منهُما على مشاعر رفيقِه ورهافة حسِّه، وابتعدَ عن الفحشِ في القوْل والإهانة في الفعل.
وانظر إلى هذا الحديث:
عَن المِقْدامِ بن مَعْدِي كَرِب - رضِيَ الله عَنْه -: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم - قامَ في النَّاسِ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عليْه، ثُمَّ قال: ((إنَّ اللَّهَ يُوصِيكُم بِالنِّساءِ خَيْرًا، إنَّ اللَّهَ يُوصِيكُم بِالنِّساءِ خَيْرًا، فإنَّهُنَّ أُمَّهاتُكُمْ وبَناتُكُمْ وخالاتُكُمْ، إنَّ الرَّجُلَ مِن أهْلِ الكِتابِ يَتَزَوَّجُ المَرْأةَ وما تُعَلِّقُ يَداها الخَيْطَ، فما يَرْغَبُ واحِدٌ مِنْهُما عَنْ صاحِبِه حَتَّى يَمُوتا هَرَمًا))؛ أخرجه الطبراني (20 /274 رقم 648)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (18 /45 /1 - 2)، وصحَّحه الألبانيُّ في "إرْواء الغليل" (7 /42)، وصحَّحه الإمام الألباني في "السلْسلة الصحيحة" (6 /873).
فما أجمل هذا النَّصَّ في الوصيَّة بين الزَّوجين! ووجه الكلام للرجُل لأنَّه عماد البيت والقائم عليه، فإن صلح وأصلح انصلح حال البيت، وإن فسد وأفسد فسد البيت، وقسوته ورحمته أبْلغ في التعبير من قسوة المرأة ورحمتها، وتنازُله ولين جانبه تنازُل القويّ القادر المتحكِّم في البيت، أمَّا تنازُل المرأة فهو قد يكونُ أحيانًا تنازُل الضَّعيف الذي لا يملك إلاَّ التَّنازُل[1].
ثمَّ يَضرب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المثَلَ بالنَّصارى الَّذين كانوا يحرمون الطلاق، فلا يَخطر ببال أحدهِما أنَّه مفارق للآخر، فيصبر كلاهما حتَّى الموت، فالمسلم أوْلى بهذا فعنده من الدَّوافع للحفاظ على بيتِه المسلم ما ليس عند النَّصراني، وعنده من الإيمان في القلْب ما يُعين على مواجهة المصاعب مع الاستعانة بالله، فأحْرى به أن يصبر على زوجتِه، فإنْ كرِهَ منها خلقًا رضِي منها آخر؛ فالطَّلاق بغيضةٌ آثَاره وإن كان في بعْض الأحيان حلاًّ لا بدَّ منْه؛ ولِهذا فمِن رحمة الله أن شرَعَه بشروطِه المعْروفة في كتب الفقه.
ولكن ليس معنى أنَّ الإسلام أباح الطَّلاق أنَّه جعله حلاًّ سريعًا لكلّ المشاكل؛ لأنَّ النُّصوص اجتمعت على الوعيد الشَّديد لمن ضيَّع الرعيَّة، ومنها هذا الحديث في البُخاري: حدَّثَنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثَنا أبو الأشْهَب، عَن الحَسَنِ: أنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيادٍ عادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسارٍ في مَرَضِه الَّذِي ماتَ فِيه، فقالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إنِّي مُحَدِّثُكَ حَديثًا سَمِعْتُه مِن رَسولِ اللَّه - صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم - سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم - يَقولُ: ((ما مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فلَمْ يَحُطْها بِنَصِيحَةٍ إلاَّ لَمْ يَجِدْ رائِحةَ الجَنَّة))؛ كتاب الأحكام، باب مَن استرعى رعيَّة فلم ينصح.
إنَّ الطَّلاق في هذا الزَّمان بالذَّات ضياع للأسرة، لاسيَّما لو كان هناك أطفال، فاستقرار الأسرة وثباتها يَحتاج لجهد واجتهاد وصبر ومثابرة، حتَّى إذا كان الطَّلاق هو المصْلحة الرَّاجحة بَحثْنا عنْه، أمَّا أن يكون الطَّلاق هو الأقْرب والأسْهل في الحلّ، فهذا خُلُق أناني من أحَد الطَّرفين، وأحيانًا من كليهِما.
فكيف يفكِّر زوجٌ أو تفكِّر زوجة في أوَّل شهر من الزَّواج عند أوَّل بادرة لمشْكِلة في الطَّلاق؟! إنَّ هذا من الحمْق ولا شكَّ؛ لأنَّ المشاكل ستحدُث وتتكرَّر، فحتَّى بين الإخوة من أبناء البيْت الواحد يحدث الشَّحناء والاختلاف، لكن سكّين الأهل - والزَّوجان صارا أسرة واحدة - باردة لا تذبح، والزَّمن يُداوي كثيرًا من الجراح، لكن الحذَر الحذَر ممَّن أصرَّ على سنِّ السكِّين حتَّى صارتْ حادَّة تقطع الرّقاب!
فإن كان الزَّوج والزَّوجة كلاهما كانت تقَع المشاكل بينه وبين إخوانه في بيْت أهله، بل بيْنه وبين أبيه وأمِّه وهو قطعة من جسدهما، فكيْف بِهِما مع رفيق غريب لم يتعارفا ولَم يتآلفَا؟! ولكن جعل الله بيْنهما المودَّة والرَّحمة؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 30]، فإذا التزماها التزمتهما.
فالمودَّة هي الحبّ الَّذي به ينصهر الصّعاب والمشاكل في بوْتقة من الأُلْفة والاحتِمال، والرَّحمة هي الشَّفقة واللّين للآخر.
فما أحسن أن يكون الزَّوج: "إنْ دَخَلَ فَهِدَ، وإنْ خَرَجَ أسِدَ، ولا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِد[2]!
وجاء في شرح النووي: "هذا أيضًا مدح بليغ، فقولها: فهِد - بفتْح الفاء وكسر الهاء - تصِفُه إذا دخل البيت بكثْرة النَّوم والغفلة في منزله عن تعهُّد ما ذهب من متاعه وما بقي، وشبَّهته بالفهْد لكثرة نومه، يقال: أنوم من فهد، وهو معنى قولها: (ولا يسأل عمَّا عهِد)؛ أي: لا يسأل عمَّا كان عهده في البيت من ماله ومتاعه، وإذا خرج أسِد - بفتح الهمزة وكسر السين - وهو وصفٌ له بالشَّجاعة، ومعناه: إذا صار بين النَّاس أو خالط الحرْب كان كالأسد". اهـ من شرح النَّووي.
فلوْ تغافل كلٌّ من الزَّوجين عن عيوب رفيقِه، والتمس له الأعذار، وقلَّل من نقْدِه واعتراضه على رفيقه، فإنَّ كثرة النَّقد تثير الضَّغائن، وبالتَّغاضي عن الزَّلل تصير الحياة الزوجيَّة جنَّة الدنيا، وكما قال الشَّاعر:
أَقْلِلْ عِتَابَكَ فَالبَقَاءُ قَلِيلُ وَالمَرْءُ يَعْدِلُ تَارَةً وَيَمِيلُ
فها هنا طِيب الكلام وحُسْن العِشْرة والوئام قد اجتمعا مع التَّغاضي والإحسان، وبهذا يمرّ العام الأوَّل وقد صار الحجران أملسَين كأحسنِ ما يكون، بل انصهَرَا في بوتقة واحدة من الودّ والرَّحمة، وانظر إلى هذا المقطع من حادث الإفك المشْهور، وهذا لفظ البخاري:
"فدعا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بَريرةَ، فقال: ((أي بريرةُ، هل رأيتِ من شيء يَريبُك؟)) قالت له بريرة: والَّذي بعثَكَ بالحقِّ ما رأيت عليْها أمرًا قطّ أغمصُه، غير أنَّها جاريةٌ حديثةُ السّنِّ تنام عن عجين أهلِها، فتأتي الدَّاجن فتأكله".
ورغْم هذا العيبِ الَّذي ذكرته بريرةُ في السيدة عائشة غير أنَّها كانت أحبَّ نسائِه إليه، ولم يخجل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو الحييّ كالعذراء في خدرها بل أشد - أن يَجهر بحبِّه لها أمام رجُل آخر، وها قد انتشر الحديثُ فينا، فكم رجُلٍ قرأَه! وكم رجُل سمعه!
ففي البخاري – المناقب -: عَن أبي عُثْمانَ قال: حدَّثَني عَمْرُو بْنُ العاصِ - رضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّ النَّبِيَّ - صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسلَّم - بَعَثَهُ على جَيْشِ ذاتِ السّلاسِل، فأتَيْتُه فقُلْتُ: أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيْك؟ قالَ: ((عائِشةُ))، فقُلْتُ: مِن الرِّجالِ؟ فقالَ: ((أبُوها)) قُلْتُ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: ((ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب))، فَعَدَّ رِجالاً.
ولوِ استقصيْنا أحوال النَّبيّ - صلَّى لله عليه وسلَّم - مع أزْواجه، لطال الحديث، فانظر مأجورًا غير مأمور كتابَ "المسند الصَّحيح في الشَّمائل المحمديَّة" لأمّ عبد الله الوادعيَّة.
إذًا؛ نُجْمِل النُّصح لِمَن تزوَّج حديثًا في الآتي:
فهْم الحياة الزَّوجيَّة ومسؤوليَّاتها، وتقْدير ذلك بعقلانيَّة؛ فهي ليستْ نزهةً ولا صداقة نقْضي فيها أيَّامًا للَّعب والمرَح، حتَّى إذا جدَّ الجِدُّ صدمنا الواقع المرير وهربنا من المسؤوليَّات الجسيمة.
ومن الأوَّل يتولَّد الثَّاني، وهو الشَّفقة على الرَّفيق ممَّا ألمَّ بِكلٍّ منهما من مشقَّة الانتِقال من حالٍ إلى حال، ومن ثمَّ التماس الأعْذار والتَّغاضي عن العيوب والإحسان إلى الرَّفيق.
الودّ والرَّحمة بين الزَّوجين، وتلطُّف كلٍّ منهُما لصاحبه، واختِيار الألفاظ الحسنة والأفعال الطيِّبة لإهدائها لرفيق العمر، ومن أهمّ هذه الأفْعال التودُّد لأهل كلٍّ منهما.
توْطين النفس على أنَّ هذه هي حياتنا ليس لنا مخرج منها إلاَّ بالموت، فالطَّلاق ليس الحلَّ الأقْرب، بل هو غير واردٍ في تلك الحياة الجديدة، إلاَّ إذا لم يكُن ثمَّ غيره يصلح كحلٍّ.
مُحاولة تخفيف الجفاف والإحباط الذي يحلّ كثيرًا في الحياة الزَّوجيَّة بشيءٍ من التَّغْيير - ولو يسيرًا - فالحياة قصيرةٌ، فلا ينبغي أن نحوِّلها جحيمًا أوَّل مَن يعذّب به هو مَن أشعله.
فها هي السَّعادة قريبة وليست بعيدة، ولا يقل أحدُنا: ليس العيب منّي بل من رفيقي، فابدأْ بنفسك مع رفيقك، ولا تقُل: يجب أن يبدأ هو، فالأمر ليس حربًا نُريد أن نكون نحن الفائِزِين فيها، بل هي معاشرة بالحُسْنى وحياة جميلة نَعيشها مرَّة واحدة، والفائز فيها ليْس مَن غلَب رفيقَه، بل مَن فاز برفيقه وحبِّه واحترامه.
وقد يكون أحَدُ الزَّوجين أكثر محاولةً من الآخَر، وقد يَجد أحدُهُما صدًّا من صاحبِه، فهذا يَحتاج إلى نصائحَ أزْيَدَ ممَّا سبق، لكن لا يختلف اثْنان عن أهمّيَّة ما سبق.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 30].
رد: رسالة لطيفة للمتزوجين
بارك الله فيك اخي لقد قراتها حرفا بحرف
جزاك خيرا والله تعلمة منها عبرا كثيرة
مع التحية
جزاك خيرا والله تعلمة منها عبرا كثيرة
مع التحية
التوقيع
_________________
رد: رسالة لطيفة للمتزوجين
بصراحــه رائع جدا هذا الموضوع
بصراحه انت تمتلك ذوق راقي في جـلب ماهو مميّز وجميل
دائما كلماتك ترتدي ثوب التميز والابداع الثقيلان
صح أحساسك ولسانك ودام توهجك
التوقيع
_________________
منتدى احلى تومبلايت
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى