تشابهت قلوبهم و إن اختلفت مقاصدهم .
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
تشابهت قلوبهم و إن اختلفت مقاصدهم .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
هذه بعض الكلمات النافعة إن شاء الله تعالى اقتطفتها من رد العلامة المعلمي اليماني على شبهات أبي رية على أهل الحديث و التي هي تكرار لما فعله أسلافه ودون أن يذكر رد العلماء عليهم و يكررها من بعده كأمثال المالكي و سيكررها من بعده من أعداء السنة النبوية
و أعجبتني هنا نقطة كنت تكلمت عليها بإختصار في موضوع (المحدثون أعداء العقل ) و لقد تكلم عليها العلامة المعلمي بأحسن كلام و أنفعه لمن أراد الحق و قد رأيت أن أضيفها لعل الله أن يفتح بها قلوبا غلفا .
قال أبو رية في مقدمة كتابه:
(وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث، يتداولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم، وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل، فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحًا في نفسه أو غير صحيح، معقولًا أو غير معقول، إذ وقفوا بعلمهم عند ما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء…).
هنا يمدح أبو رية السنة و يتذمر من عدم اهتمام غير أهل الحديث بها وهذا من أظهر الأدلة على جهل القوم بما ينتقدونه فالذي يشرح السنة ليس علماء الحديث فقط بل فقهاء و مفسرون و منهم السلفي و الاشعري و الماتريدي .وعلى كل ،هذا رد كلام المعلمي رحمه الله تعالى على هذا الكلام:
: مراده بقوله: (العلماء) المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة، ولم يكن منهم أحد في الصحابة والمهتدين بهديهم من علماء التابعين وأتباعهم والذين يلونهم، هؤلاء كلهم ممن سماهم (رجال الحديث) ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف، أولئك كلهم ليسوا عند أبي رية علماء؛ لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول، بل يفرون منها وينهون عنها ويعدونها زيفًا وضلالًا وخروجًا عن الصراط المستقيم، وقنعوا بعقل العامة! وأقول: مهما تكن حالهم فقد كانوا عقلاء العقل الذي ارتضاه الله عز وجل لأصحاب رسوله ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه، ورضي ذلك منهم، وشهد لهم بأنهم { الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا }، { الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }، { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }. وقال لهم في أواخر حياة رسوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }. فمن زعم أن عقولهم لم تكن مع تسديد الشرع لها كافية وافية بمعرفة الله تعالى وفهم كتابه ومعرفة ما لا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته؛ فأنما طعن في الدين نفسه. وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقرب الخلق إليهم عقلًا وعلمًا وهديًا، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم، وهؤلاء هم الذين سماهم أبو رية (رجال الحديث).
قد يقال: أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟
أقول: نعم. راعوا ذلك في أربعة مواطن: عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث. فالمتثبتون إذا سمعوا خبرًا تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته. قال الإمام الشافعي في الرسالة ص 399: «وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه». وقال الخطيب في الكفاية في علم الرواية ص 429: (باب وجوب إخراج المنكر والمستحيل من الأحاديث). وفي الرواية جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثًا بين البطلان إلا وجدت في سنده واحدًا أو اثنين أوجماعة قد جرحهم الأئمة، والأئمة كثيرًا ما يجرحون الراوي بخبر واحد منكر جاء به، فضلًا عن 3 خبرين أو أكثر. ويقولون للخبر الذين تمتنع صحته أو تبعد: (منكر) أو (باطل). وتجد ذلك كثيرًا في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات، والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثا حديثًا.
فأما تصحيح الأحاديث فهم به أعنى وأشد احتياطًا، نعم ليس كل من حكي عنه توثيق أو تصحيح متثبتًا، ولكن العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك.
هذا وقد عرف الأئمة الذين صححوا الأحاديث، أن منها أحاديث تثقل على بعض المتكلمين ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقة للعقل المعتد به في الدين، مستكملة شرائط الصحة الأخرى، وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثقلت هي أيضًا على المتكلمين، وقد علموا أن النبي كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جدًا أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات.
من الحقائق التي يجب أن لا يغفل عنها: أن الفريق الأول -وهم الصحابة ومن اهتدى بهديهم من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم- عاشوا مع الله ورسوله، فالصحابة مع النبي وهديه ومع القرآن، والتابعون مع القرآن والصحابة والسنة وهلم جرا. وإن الفريق الثاني: وهم المتكلمون والمتفلسفون ونحوهم عاشوا مع النظريات والشبهات والأغلوطات والمخاصمات، والمؤمن يعلم أن الهدى بيد الله، وأنه سبحانه إذا شرع إلى الهدى سبيلًا فالعدول إلى غيره لن يكون إلا تباعدًا عنه وتعرضًا للحرمان منه، وبهذا جاء القرآن، وعليه تدل أحوال السلف واعتراف بعض أكابرهم في أواخر أعمارهم، والدقائق الطبيعية شيء والحقائق الدينية شيء آخر، فمن ظن الطريق إلى تلك طريقًا إلى هذه فقد ضل ضلالًا بعيدًا.
واعلم أن أكثر المتكلمين لا يردون الأحاديث التي صححها أئمة الحديث، ولكنهم يتأولونها كما يتأولون الآيات التي يخالفون معانيها الظاهرة. لكن بعضهم رأى أن تأويل تلك الآيات والأحاديث تعسف ينكره العارف باللسان وبقانون الكلام وبطبيعة العصر النبوي، والذي يخشونه من تكذيب القرآن لا يخشونه من تكذيب الأحاديث، فأقدموا عليه وفي نفوسهم ما فيها، ولهم عدة مؤلفات في تأويل الأحاديث أو ردّها -قد طُبع بعضها- فلم يهملوا الحديث كما زعم أبو رية.
البلاغة
قول أبي رية: (والأدباء) يعني بهم علماء البلاغة، يريد أنهم لم يتصدوا لنقد الأحاديث بمقتضى البلاغة، قال في (ص6): (ولما وصلت من دراستي إلى كتب الحديث ألفيت فيها من الأحاديث ما يبعد أن يكون في 4 ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه من محكم قوله وبارع منطقه صلوات الله عليه… ومما كان يثير عجبي أني إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف العرب أهتز لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت لبعض ما ينسب إلى النبي من قول لا أجد له هذه الأريحية ولا ذاك الاهتزاز، وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة، والعارى عن الفصاحة، وهو أبلغ من نطق بالضاد، أو يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة، وهو أحكم من دعا إلى رشاد).
أقول: أما الأحاديث الصحيحة فليست هي بهذه المثابة، والاهتزاز والأريحية مما يختلف باختلاف الفهم والذوق والهوى، ولئن كان صادقًا في أن هذه حاله مع الأحاديث الصحيحة فلن يكون حاله مع كثير من آيات القرآن وسوره إلا قريبًا من ذلك. هذا والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والنبي كان همه إفهام الناس وتعليمهم على اختلاف طبقاتهم، وقد أمره الله تعالى أن يقول: { وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ }. والكلمات المنقولة عن العرب ليست بشيء يذكر بالنسبة إلى كلامهم كله، وإنما نقلت لطرافتها، ومقتضى ذلك أنه لم يستطرف من كلامهم غيرها. وكذلك المنقول من شعرهم قليل، وإنما نقل ما استجيد، والشعر مظنة التصنع البالغ، ومع ذلك قد تقرأ القصيدة فلا تهتز إلا للبيت والبيتين، ثم إن كثيرًا مما نقل عن النبي روي بالمعنى كما يأتي، فأما سقم المعنى فقد ذكر علماء الحديث أنه من علامات الموضوع، كما نقله أبو رية نفسه (ص 104). وذكر ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل (ص351) في علامات الصحيح: (أن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة) فإن كان أبو رية يستسقم معاني الأحاديث الصحيحة فمن نفسه أتي.
ومن يكُ ذا فم مرّ مريض ** يجد مرًّا به العذبَ الزُّلالا
قوله: (… أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء) كذا قال، وقد أسلفتُ أن رعايتهم للمعنى سابقة، يراعونه عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الراوي، ثم يراعونه عند التصحيح، ومنهم من يتسامح في بعض ذلك، وهم معروفون كما تقدم. وقد قال أبو رية (ص104): (ذكر المحققون أمورًا كلية يعرف بها أن الحديث موضوع …) فذكر جميع ما يتعلق بالمعنى نقلًا عنهم. فإن قال: ولكن مصححي الأحاديث لم يراعوا ذلك. قلت: أما المتثبتون كالبخاري ومسلم فقد راعوا ذلك، بلى في كل منهما أحاديث يسيرة انتقدها بعض الحفاظ أو ينتقدها بعض الناس. ومرجع ذلك إما إلى اختلاف النظر، وإما إلى اصطلاح لهما يغفل عنه المنتقد، وإما إلى الخطأ الذي لا ينجو منه بشر، وقد انُتقدت عليهما أحاديث من جهة السند، فهل يقال لأجل ذلك: إنهما لم يراعيا هذا أيضًا؟
5قال (ص5): (وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته… فإنهم قد أهملوا جميعًا أمرًا خطيرًا … أما هذا كله.. فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخبارًا في بطون الكتب مبعثرة…) يعني: فجمعها هو في كتابه. وغالب ذلك قد تكفلت به كتب المصطلح، وسائره في كتب أخرى من تأليف المحدثين أنفسهم، ومنها ينقل أبو رية.
قال (ص6): (أسباب تصنيف هذا الكتاب… إلخ) إلى أن قال: (ومما راعني أني أجد في معاني كثير من الأحاديث ما لا يقبله عقل صريح). أقول: لا ريب أن في ما ينسب إلى النبي من الأخبار ما يرده العقل الصريح، وقد جمع المحدثون ذلك وما يقرب منه في كتب الموضوعات، وما لم يذكر فيها منه فلن تجد له إسنادًا متصلًا إلا وفي رجاله ممن جرحه أئمة الحديث رجل أو أكثر، وزعم أن في الصحيحين شيئًا من ذلك سيأتي النظر فيه وقد تقدمت قضية العقل.
قال: (ولا يثبته علم صحيح ولا يؤيده حس ظاهر أو كتاب متواتر) أقول: لا أدري ما فائدة هذا، مع العلم بأن ما يثبته العلم الصحيح أو يؤيده الحس الظاهر لابد أن يقبله العقل الصريح، وإن القرآن لا يؤيد ما لا يقبله العقل الصريح.
ثم قال: (كنت أسمع من شيوخ الدين عفا الله عنهم أن الأحاديث التي تحملها كتب السنة قد جاءت كلها على حقيقتها…)
أقول: العامة في باديتنا اليمن، والعامة من مسلمي الهند، إذا ذكرت لأحدهم حديثًا قال: أصحيح هو؟ فإن قلت له: هو في سنن الترمذي -مثلًا- قال: هل جميع الأحاديث التي في الكتاب المذكور صحيحة؟ فهل هؤلاء أعلم من شيوخ الدين في مصر؟
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
هذه بعض الكلمات النافعة إن شاء الله تعالى اقتطفتها من رد العلامة المعلمي اليماني على شبهات أبي رية على أهل الحديث و التي هي تكرار لما فعله أسلافه ودون أن يذكر رد العلماء عليهم و يكررها من بعده كأمثال المالكي و سيكررها من بعده من أعداء السنة النبوية
و أعجبتني هنا نقطة كنت تكلمت عليها بإختصار في موضوع (المحدثون أعداء العقل ) و لقد تكلم عليها العلامة المعلمي بأحسن كلام و أنفعه لمن أراد الحق و قد رأيت أن أضيفها لعل الله أن يفتح بها قلوبا غلفا .
قال أبو رية في مقدمة كتابه:
(وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث، يتداولونه فيما بينهم ويدرسونه على طريقتهم، وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل، فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث على قدر الوسع في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحًا في نفسه أو غير صحيح، معقولًا أو غير معقول، إذ وقفوا بعلمهم عند ما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء…).
هنا يمدح أبو رية السنة و يتذمر من عدم اهتمام غير أهل الحديث بها وهذا من أظهر الأدلة على جهل القوم بما ينتقدونه فالذي يشرح السنة ليس علماء الحديث فقط بل فقهاء و مفسرون و منهم السلفي و الاشعري و الماتريدي .وعلى كل ،هذا رد كلام المعلمي رحمه الله تعالى على هذا الكلام:
: مراده بقوله: (العلماء) المشتغلون بعلم الكلام والفلسفة، ولم يكن منهم أحد في الصحابة والمهتدين بهديهم من علماء التابعين وأتباعهم والذين يلونهم، هؤلاء كلهم ممن سماهم (رجال الحديث) ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف، أولئك كلهم ليسوا عند أبي رية علماء؛ لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول، بل يفرون منها وينهون عنها ويعدونها زيفًا وضلالًا وخروجًا عن الصراط المستقيم، وقنعوا بعقل العامة! وأقول: مهما تكن حالهم فقد كانوا عقلاء العقل الذي ارتضاه الله عز وجل لأصحاب رسوله ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه، ورضي ذلك منهم، وشهد لهم بأنهم { الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا }، { الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }، { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }. وقال لهم في أواخر حياة رسوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }. فمن زعم أن عقولهم لم تكن مع تسديد الشرع لها كافية وافية بمعرفة الله تعالى وفهم كتابه ومعرفة ما لا يتم الإيمان ولا يكمل الدين إلا بمعرفته؛ فأنما طعن في الدين نفسه. وكان التابعون المهتدون بهدي الصحابة أقرب الخلق إليهم عقلًا وعلمًا وهديًا، وهكذا من اهتدى بهديهم من الطبقات التي بعدهم، وهؤلاء هم الذين سماهم أبو رية (رجال الحديث).
قد يقال: أما نفي العلم والعقل عنهم فلا التفات إليه، ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟
أقول: نعم. راعوا ذلك في أربعة مواطن: عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث. فالمتثبتون إذا سمعوا خبرًا تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته. قال الإمام الشافعي في الرسالة ص 399: «وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه». وقال الخطيب في الكفاية في علم الرواية ص 429: (باب وجوب إخراج المنكر والمستحيل من الأحاديث). وفي الرواية جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثًا بين البطلان إلا وجدت في سنده واحدًا أو اثنين أوجماعة قد جرحهم الأئمة، والأئمة كثيرًا ما يجرحون الراوي بخبر واحد منكر جاء به، فضلًا عن 3 خبرين أو أكثر. ويقولون للخبر الذين تمتنع صحته أو تبعد: (منكر) أو (باطل). وتجد ذلك كثيرًا في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات، والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثا حديثًا.
فأما تصحيح الأحاديث فهم به أعنى وأشد احتياطًا، نعم ليس كل من حكي عنه توثيق أو تصحيح متثبتًا، ولكن العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك.
هذا وقد عرف الأئمة الذين صححوا الأحاديث، أن منها أحاديث تثقل على بعض المتكلمين ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقة للعقل المعتد به في الدين، مستكملة شرائط الصحة الأخرى، وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثقلت هي أيضًا على المتكلمين، وقد علموا أن النبي كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جدًا أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات.
من الحقائق التي يجب أن لا يغفل عنها: أن الفريق الأول -وهم الصحابة ومن اهتدى بهديهم من التابعين وأتباعهم ومن بعدهم- عاشوا مع الله ورسوله، فالصحابة مع النبي وهديه ومع القرآن، والتابعون مع القرآن والصحابة والسنة وهلم جرا. وإن الفريق الثاني: وهم المتكلمون والمتفلسفون ونحوهم عاشوا مع النظريات والشبهات والأغلوطات والمخاصمات، والمؤمن يعلم أن الهدى بيد الله، وأنه سبحانه إذا شرع إلى الهدى سبيلًا فالعدول إلى غيره لن يكون إلا تباعدًا عنه وتعرضًا للحرمان منه، وبهذا جاء القرآن، وعليه تدل أحوال السلف واعتراف بعض أكابرهم في أواخر أعمارهم، والدقائق الطبيعية شيء والحقائق الدينية شيء آخر، فمن ظن الطريق إلى تلك طريقًا إلى هذه فقد ضل ضلالًا بعيدًا.
واعلم أن أكثر المتكلمين لا يردون الأحاديث التي صححها أئمة الحديث، ولكنهم يتأولونها كما يتأولون الآيات التي يخالفون معانيها الظاهرة. لكن بعضهم رأى أن تأويل تلك الآيات والأحاديث تعسف ينكره العارف باللسان وبقانون الكلام وبطبيعة العصر النبوي، والذي يخشونه من تكذيب القرآن لا يخشونه من تكذيب الأحاديث، فأقدموا عليه وفي نفوسهم ما فيها، ولهم عدة مؤلفات في تأويل الأحاديث أو ردّها -قد طُبع بعضها- فلم يهملوا الحديث كما زعم أبو رية.
البلاغة
قول أبي رية: (والأدباء) يعني بهم علماء البلاغة، يريد أنهم لم يتصدوا لنقد الأحاديث بمقتضى البلاغة، قال في (ص6): (ولما وصلت من دراستي إلى كتب الحديث ألفيت فيها من الأحاديث ما يبعد أن يكون في 4 ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه من محكم قوله وبارع منطقه صلوات الله عليه… ومما كان يثير عجبي أني إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف العرب أهتز لبلاغتها، وتعروني أريحية من جزالتها، وإذا قرأت لبعض ما ينسب إلى النبي من قول لا أجد له هذه الأريحية ولا ذاك الاهتزاز، وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة، والعارى عن الفصاحة، وهو أبلغ من نطق بالضاد، أو يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة، وهو أحكم من دعا إلى رشاد).
أقول: أما الأحاديث الصحيحة فليست هي بهذه المثابة، والاهتزاز والأريحية مما يختلف باختلاف الفهم والذوق والهوى، ولئن كان صادقًا في أن هذه حاله مع الأحاديث الصحيحة فلن يكون حاله مع كثير من آيات القرآن وسوره إلا قريبًا من ذلك. هذا والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والنبي كان همه إفهام الناس وتعليمهم على اختلاف طبقاتهم، وقد أمره الله تعالى أن يقول: { وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ }. والكلمات المنقولة عن العرب ليست بشيء يذكر بالنسبة إلى كلامهم كله، وإنما نقلت لطرافتها، ومقتضى ذلك أنه لم يستطرف من كلامهم غيرها. وكذلك المنقول من شعرهم قليل، وإنما نقل ما استجيد، والشعر مظنة التصنع البالغ، ومع ذلك قد تقرأ القصيدة فلا تهتز إلا للبيت والبيتين، ثم إن كثيرًا مما نقل عن النبي روي بالمعنى كما يأتي، فأما سقم المعنى فقد ذكر علماء الحديث أنه من علامات الموضوع، كما نقله أبو رية نفسه (ص 104). وذكر ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل (ص351) في علامات الصحيح: (أن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة) فإن كان أبو رية يستسقم معاني الأحاديث الصحيحة فمن نفسه أتي.
ومن يكُ ذا فم مرّ مريض ** يجد مرًّا به العذبَ الزُّلالا
قوله: (… أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء) كذا قال، وقد أسلفتُ أن رعايتهم للمعنى سابقة، يراعونه عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الراوي، ثم يراعونه عند التصحيح، ومنهم من يتسامح في بعض ذلك، وهم معروفون كما تقدم. وقد قال أبو رية (ص104): (ذكر المحققون أمورًا كلية يعرف بها أن الحديث موضوع …) فذكر جميع ما يتعلق بالمعنى نقلًا عنهم. فإن قال: ولكن مصححي الأحاديث لم يراعوا ذلك. قلت: أما المتثبتون كالبخاري ومسلم فقد راعوا ذلك، بلى في كل منهما أحاديث يسيرة انتقدها بعض الحفاظ أو ينتقدها بعض الناس. ومرجع ذلك إما إلى اختلاف النظر، وإما إلى اصطلاح لهما يغفل عنه المنتقد، وإما إلى الخطأ الذي لا ينجو منه بشر، وقد انُتقدت عليهما أحاديث من جهة السند، فهل يقال لأجل ذلك: إنهما لم يراعيا هذا أيضًا؟
5قال (ص5): (وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته… فإنهم قد أهملوا جميعًا أمرًا خطيرًا … أما هذا كله.. فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخبارًا في بطون الكتب مبعثرة…) يعني: فجمعها هو في كتابه. وغالب ذلك قد تكفلت به كتب المصطلح، وسائره في كتب أخرى من تأليف المحدثين أنفسهم، ومنها ينقل أبو رية.
قال (ص6): (أسباب تصنيف هذا الكتاب… إلخ) إلى أن قال: (ومما راعني أني أجد في معاني كثير من الأحاديث ما لا يقبله عقل صريح). أقول: لا ريب أن في ما ينسب إلى النبي من الأخبار ما يرده العقل الصريح، وقد جمع المحدثون ذلك وما يقرب منه في كتب الموضوعات، وما لم يذكر فيها منه فلن تجد له إسنادًا متصلًا إلا وفي رجاله ممن جرحه أئمة الحديث رجل أو أكثر، وزعم أن في الصحيحين شيئًا من ذلك سيأتي النظر فيه وقد تقدمت قضية العقل.
قال: (ولا يثبته علم صحيح ولا يؤيده حس ظاهر أو كتاب متواتر) أقول: لا أدري ما فائدة هذا، مع العلم بأن ما يثبته العلم الصحيح أو يؤيده الحس الظاهر لابد أن يقبله العقل الصريح، وإن القرآن لا يؤيد ما لا يقبله العقل الصريح.
ثم قال: (كنت أسمع من شيوخ الدين عفا الله عنهم أن الأحاديث التي تحملها كتب السنة قد جاءت كلها على حقيقتها…)
أقول: العامة في باديتنا اليمن، والعامة من مسلمي الهند، إذا ذكرت لأحدهم حديثًا قال: أصحيح هو؟ فإن قلت له: هو في سنن الترمذي -مثلًا- قال: هل جميع الأحاديث التي في الكتاب المذكور صحيحة؟ فهل هؤلاء أعلم من شيوخ الدين في مصر؟
أميرة المنتدى- مراقبة الإسلام والأسرة
- تاريخ التسجيل : 29/08/2018المساهمات : 2137نقاط التميز : 3813الجنس :العمر : 24الأبراج :
رد: تشابهت قلوبهم و إن اختلفت مقاصدهم .
شكرا على الموضوع القيم
فؤاد- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 19/09/2018المساهمات : 282نقاط التميز : 282العمر : 24الأبراج :
رد: تشابهت قلوبهم و إن اختلفت مقاصدهم .
شكر جزيلا للطرح القيم
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
شيكاغو- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 25/09/2018المساهمات : 336نقاط التميز : 336الجنس :العمر : 22الأبراج :
رد: تشابهت قلوبهم و إن اختلفت مقاصدهم .
بصراحــه رائع جدا هذا الموضوع
بصراحه انت تمتلك ذوق راقي في جـلب ماهو مميّز وجميل
دائما كلماتك ترتدي ثوب التميز والابداع الثقيلان
صح أحساسك ولسانك ودام توهجك
التوقيع
_________________
منتدى احلى تومبلايت
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى