سيرة سلمان الفارسي رضي الله عنه
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
سيرة سلمان الفارسي رضي الله عنه
سيرة سلمان الفارسي رضي الله عنه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر.
هذا الصحابي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا[1] لَنَالَهُ رِجَالٌ - أَوْ رَجُلٌ - مِنْ هَؤُلاءِ»[2]. وفي رواية: «لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِس - أَوْ قَالَ: رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسٍ- حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ»[3] [4].
وكان لبيبًا حازمًا من عقلاء الرجال، وعبادهم، وزهادهم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث، ولزمه، وأحسن صحبته، إنه سلمان ابن الإسلام أبو عبد الله الفارسي، سابق الفرس إلى الإسلام، وكان ببلاد فارس مجوسيًّا سادن النار.
وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء قدم عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقصته رضي الله عنه طويلة في بحثه عن الحقيقة، وعن الدين الحق، ولنترك سلمان رضي الله عنه يحدثنا عن قصة إسلامه، يقول سلمان رضي الله عنه: كنت رجلًا فارسيًّا من أهل أصبهان[5] من أهل قرية منها يقال لها جَيُّ، وكان أبي دهقان[6] قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية[7] حتى كنت قَطِنَ النار[8] الذي يوقدها لا يتركها تخبو[9] ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة[10] عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم، وسمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟
قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، قال: فلما جئته قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بُني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خيرٌ منه، قال: قلت، كلا والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته.
قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم.
قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم.
قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف[11] في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل، فدخلت معه. قال: فكان رجل سوءٍ، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال[12] من ذهب وورق[13].
قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟
قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة.
ثم جاؤوا برجل آخر، فجعلوه بمكانه، قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلًا لا يصلي الخمس، أُرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب[14] ليلًا ونهارًا منه، قال سلمان: فأحببته حبًّا لم أُحبه من قبله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان، إني كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلًا بالموصل[15]، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالحق به، قال: فلما مات وغُيب[16]، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره. قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه إلا رجلًا بنصيبين[17]، وهو فلان، فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فجئته فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي، قال: فأقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حُضر، قلت له: يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما نعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلًا بعمورية[18]، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، قال: فإنه على أمرنا.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حُضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك[19] زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجرًا إلى أرض بين حرتين[20] بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال: ثم مات وغيب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كَلْبٍ تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟
قالوا: نعم، فأعطيتهموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى[21]، ظلموني فباعوني من رجل من يهود عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده، قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني[22] منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق[23] لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال: فلان، قاتل الله بني قيلة[24]، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي.
قال: فلما سمعتها أخذتني العُرواء[25]، حتى ظننت سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟
قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا! أقبل على عملك، قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.
قال سلمان رضي الله عنه: وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «كُلُوا»، وأمسك يده فلم يأكل، قال سلمان: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد[26] قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان[27] له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟
فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته[28]، عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، قال: فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أُقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَحَوَّلْ»[29] فتحولت، فقصصت عليه حديثي فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.
ثم شَغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرٌ وأحدٌ.
قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَاتِبْ[30] يَا سَلْمَانُ»، فكاتبت صاحبي على ثلاث مئة نخلة أحييها له بالفقير[31]، وبأربعين أوقية[32]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ»، فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية[33]، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر- يعني: الرجل بقدر ما عنده - حتى اجتمعت لي ثلاث مئة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا[34]، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي».
قال سلمان رضي الله عنه: ففقرت لها، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي علي المال، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَا فَعَلَ الفَارِسِيُّ المُكَاتَبُ؟»، قال: فدعيت له، فقال: «خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ»، فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟
قال: «خُذْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ»، قال سلمان: فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم وعتقت، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد[35].
وروى البخاري في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: أنه تداوله[36] بضعة[37] عشر من رب[38] إلى رب[39].
وكان أول مشاهده الخندق، وشهد بقية المشاهد، وفتوح العراق، وولي المدائن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء، وسكن أبو الدرداء الشام، وسكن سلمان العراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: سلام عليك.. أما بعد، فإن الله رزقني بعدك مالًا وولدًا، ونزلت الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: سلام عليكم.. أما بعد، فإنك قد كتبت إلي أن الله رزقك مالًا وولدًا، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يكثر حلمك، وأن ينفعك علمك، وكتبت إلي أنك نزلت الأرض المقدسة، وأن الأرض لا تعمل لأحد، اعمل كأنك ترى، واعدد نفسك من الموتى[40].
وكان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه فرقه، وأكل من كسب يده، وكان ينسج الخوص[41].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الحسن قال: لما احتضر سلمان بكى، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدًا، فتركنا ما عهد إلينا، أن يكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب، قال: ثم نظرنا فيما ترك، فإذا قيمة ما ترك بضعة وعشرون درهمًا، أو بضعة وثلاثون درهمًا[42].
وكان وفاته سنة خمس وثلاثين في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، روى عبدالرزاق عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: دخل ابن مسعود على سلمان عند الموت، قال ابن حجر: فهذا يدل على أنه مات قبل ابن مسعود، ومات ابن مسعود قبل سنة أربع وثلاثين، فكأنه مات سنة ثلاث أو ستة وثلاثين»[43][44][45].
رضي الله عن سلمان، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا
به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: الألوكة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر.
هذا الصحابي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا[1] لَنَالَهُ رِجَالٌ - أَوْ رَجُلٌ - مِنْ هَؤُلاءِ»[2]. وفي رواية: «لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِس - أَوْ قَالَ: رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسٍ- حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ»[3] [4].
وكان لبيبًا حازمًا من عقلاء الرجال، وعبادهم، وزهادهم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث، ولزمه، وأحسن صحبته، إنه سلمان ابن الإسلام أبو عبد الله الفارسي، سابق الفرس إلى الإسلام، وكان ببلاد فارس مجوسيًّا سادن النار.
وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء قدم عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقصته رضي الله عنه طويلة في بحثه عن الحقيقة، وعن الدين الحق، ولنترك سلمان رضي الله عنه يحدثنا عن قصة إسلامه، يقول سلمان رضي الله عنه: كنت رجلًا فارسيًّا من أهل أصبهان[5] من أهل قرية منها يقال لها جَيُّ، وكان أبي دهقان[6] قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية[7] حتى كنت قَطِنَ النار[8] الذي يوقدها لا يتركها تخبو[9] ساعة، قال: وكانت لأبي ضيعة[10] عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم، وسمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟
قالوا: بالشام، قال: ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، قال: فلما جئته قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بُني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خيرٌ منه، قال: قلت، كلا والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا، ثم حبسني في بيته.
قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم.
قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم.
قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف[11] في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل، فدخلت معه. قال: فكان رجل سوءٍ، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال[12] من ذهب وورق[13].
قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك؟
قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة.
ثم جاؤوا برجل آخر، فجعلوه بمكانه، قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلًا لا يصلي الخمس، أُرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب[14] ليلًا ونهارًا منه، قال سلمان: فأحببته حبًّا لم أُحبه من قبله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان، إني كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحبه من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلًا بالموصل[15]، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالحق به، قال: فلما مات وغُيب[16]، لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره. قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه إلا رجلًا بنصيبين[17]، وهو فلان، فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فجئته فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي، قال: فأقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حُضر، قلت له: يا فلان، إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي، وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما نعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلًا بعمورية[18]، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، قال: فإنه على أمرنا.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حُضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك[19] زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجرًا إلى أرض بين حرتين[20] بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال: ثم مات وغيب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كَلْبٍ تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟
قالوا: نعم، فأعطيتهموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى[21]، ظلموني فباعوني من رجل من يهود عبدًا، فكنت عنده، ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده، قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني[22] منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق[23] لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال: فلان، قاتل الله بني قيلة[24]، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي.
قال: فلما سمعتها أخذتني العُرواء[25]، حتى ظننت سأسقط على سيدي، قال: ونزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟
قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا! أقبل على عملك، قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.
قال سلمان رضي الله عنه: وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «كُلُوا»، وأمسك يده فلم يأكل، قال سلمان: فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد[26] قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان[27] له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟
فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته[28]، عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، قال: فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أُقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَحَوَّلْ»[29] فتحولت، فقصصت عليه حديثي فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.
ثم شَغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرٌ وأحدٌ.
قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَاتِبْ[30] يَا سَلْمَانُ»، فكاتبت صاحبي على ثلاث مئة نخلة أحييها له بالفقير[31]، وبأربعين أوقية[32]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ»، فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية[33]، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر- يعني: الرجل بقدر ما عنده - حتى اجتمعت لي ثلاث مئة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا[34]، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي».
قال سلمان رضي الله عنه: ففقرت لها، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي علي المال، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَا فَعَلَ الفَارِسِيُّ المُكَاتَبُ؟»، قال: فدعيت له، فقال: «خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ»، فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟
قال: «خُذْهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ»، قال سلمان: فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم وعتقت، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد[35].
وروى البخاري في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: أنه تداوله[36] بضعة[37] عشر من رب[38] إلى رب[39].
وكان أول مشاهده الخندق، وشهد بقية المشاهد، وفتوح العراق، وولي المدائن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء، وسكن أبو الدرداء الشام، وسكن سلمان العراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: سلام عليك.. أما بعد، فإن الله رزقني بعدك مالًا وولدًا، ونزلت الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: سلام عليكم.. أما بعد، فإنك قد كتبت إلي أن الله رزقك مالًا وولدًا، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يكثر حلمك، وأن ينفعك علمك، وكتبت إلي أنك نزلت الأرض المقدسة، وأن الأرض لا تعمل لأحد، اعمل كأنك ترى، واعدد نفسك من الموتى[40].
وكان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه فرقه، وأكل من كسب يده، وكان ينسج الخوص[41].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الحسن قال: لما احتضر سلمان بكى، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدًا، فتركنا ما عهد إلينا، أن يكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب، قال: ثم نظرنا فيما ترك، فإذا قيمة ما ترك بضعة وعشرون درهمًا، أو بضعة وثلاثون درهمًا[42].
وكان وفاته سنة خمس وثلاثين في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، روى عبدالرزاق عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: دخل ابن مسعود على سلمان عند الموت، قال ابن حجر: فهذا يدل على أنه مات قبل ابن مسعود، ومات ابن مسعود قبل سنة أربع وثلاثين، فكأنه مات سنة ثلاث أو ستة وثلاثين»[43][44][45].
رضي الله عن سلمان، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا
به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: الألوكة
ᴛʜᴇ ʀᴇᴅ ғʟᴏωᴇʀ- نجم ستارديس
- تاريخ التسجيل : 29/08/2018المساهمات : 3052نقاط التميز : 5482الجنس :العمر : 25الأبراج :
مواضيع مماثلة
» الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه
» رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم : سلمان الفارسي - الباحث عن الحقيقة
» سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه" الشيخ عبدالله بن محمد النجمي حفظه الله.
» قطف الثمر بشيء من سيرة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
» قبسات من سيرة الصديق رضي الله عنه
» رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم : سلمان الفارسي - الباحث عن الحقيقة
» سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه" الشيخ عبدالله بن محمد النجمي حفظه الله.
» قطف الثمر بشيء من سيرة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
» قبسات من سيرة الصديق رضي الله عنه
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى