السيرة النبوية
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
السيرة النبوية
إنها من أمتع اللحظات حقًّا تلك التي يقضيها المرء في قراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو البحث فيها؛ فهي الحياة الكاملة التي لا يعتريها قصور ولا نقص. وهي الحياة التي حفلت -في كل جزئية من جزئياتها مهما دقَّت- بالفائدة والنفع؛ إنها الحياة الممتعة حقًّا، مع كل ما فيها من آلام وأحزان؛ ولكنها كانت ممتعة لأننا كنا نعرف منها الصواب المطلق في التعامل مع كل موقف؛ سواء كان مُفْرِحًا أو مُحزِنًا، وكنا نُدرك الحكمة الحقيقية مهما كان الموقف مفاجئًا أو مؤثِّرًا.. إنها حياة عجيبة حقًّا!
إننا ندرس سيرة أعظم إنسان خلقه الله عز وجل من لدن آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة، وليس هذا على سبيل المبالغة؛ ولكنها عين الحقيقة فعلاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَنَا سَيِّدُ القَوْمِ يَوْمَ القِيَامَةِ"[1]. وفي رواية: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[2]. وعنه -أيضًا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ"[3]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ"[4].
إن تدبُّرًا في هذه الأوصاف السابقة لحريٌّ أن يُلقي الرهبة في القلب، والخشوع في الجوارح كلها، ونحن نقرأ عن رجل بهذه القيمة وهذا السموِّ! إن الأنبياء جميعًا -وهم قادة الدنيا وسادتها- سيجتمعون تحت اللواء الذي يحمله يوم القيامة، ومن وسط المليارات التي عاشت على الأرض، ودُفنت فيها، سيكون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مَنْ تنشق عنه الأرض.
إننا نتكلم عن الرسول الماحي الذي محا الله به الكفر، وأعاد الناس -بعد أن ضَلُّوا وفُتِنُوا- إلى جادَّة الطريق، ونتكلم عن الرسول الحاشر الذي لن يُحشَر الناس إلا بعد بعثه يوم القيامة، ونتكلَّم عن الرسول العاقب الذي جاء عقب كل الأنبياء، ولن يأتي نبي أبدًا بعده؛ روى جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي، الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ"[5].
لقد كانت العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وربِّه عز وجل علاقة عجيبة حقًّا؛ لم يخاطبه ربُّه عز وجل في القرآن الكريم باسمه قط، وإنما كان يناديه بـ{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وبـ{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، وكان يمدحه وهو يعلم أن هذا المدح لن يبطره، فقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وأقسم بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وصرَّح له بأنه سبحانه قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر؛ فقال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وطمأنه أنه سيعطيه حتى الرضا؛ فقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وحَصْرُ مثل هذا في القرآن صعب لكثرة تكراره.
وكان سبحانه إذا رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حزينًا أرسل له جبريل عليه السلام بسرعة ليطمئن عليه، ويُسَكِّن حزنه؛ روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي". وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عز وجل: "يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟" فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: "يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلاَ نَسُوءُكَ"[6].
وعندما زادت معاناته صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من البعثة -وذلك بعد موت خديجة زوجته رضي الله عنها، وعمِّه أبي طالب، وتكذيب الناس له- دعاه الله عز وجل إلى زيارته في السماوات العلا! فكانت رحلة الإسراء والمعراج، وكان التكريم الذي ما بعده تكريم.
إنها أعجب العلاقات فعلاً، وقد صارت هذه العلاقة قريبة حتى كان أفضل توصيف لها أنها علاقة خليل بخليله! روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ خَلِيلاً، لاَتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلاً، وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللهِ"[7]. وفي رواية: "وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ عز وجل صَاحِبَكُمْ خَلِيلاً"[8]. وقال أيضًا: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً"[9]!
إن هذا هو الشرف حقًّا! ولقد رفع الله ذكر حبيبه صلى الله عليه وسلم في الدنيا كلها حتى صار أعلى الناس ذِكْرًا، وأعظم الناس قدرًا؛ قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4]، فكان رفع ذِكْرِه صلى الله عليه وسلم من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم؛ حيث لا يتأتى ذلك لبشر عاديٍّ أبدًا!
هل يعلم الناس اسمًا ذاع انتشاره بين الناس على مدار القرون مثل اسم "محمد"؟ ولو أضفت إلى ذلك أسماءه الأخرى -كأحمد ومحمود ومصطفى- لكان البون شاسعًا بين أي اسم في الدنيا واسم هذا النبي الكريم.
هل هناك من البشر من يرتفع اسمه في الأرض مثلما يتردَّد اسم محمد صلى الله عليه وسلم؟ إن الأذان الذي يرتفع قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. يتردَّد في كل دقيقة -بل في كل لحظة- في كل أوقات الليل والنهار، فما من لحظة في الدنيا إلا ويرتفع فيها أذان في مكان ما.. في مكة أو المدينة أو القدس .. في القاهرة أو بغداد أو الرباط .. في لندن أو باريس أو نيويورك .. في المشارق في اليابان، وفي المغارب في البرازيل! أليس هذا رفعًا عجيبًا لذكره صلى الله عليه وسلم؟
مَنْ من البشر له أتباع كمحمد صلى الله عليه وسلم؟ هل هناك دولة في العالم أو مدينة ليس فيها مسلمون؟ مَنْ مِنَ المفكرين والفلاسفة والقواد والأعلام له أتباع بهذه الصورة؟
مَنْ مِنَ الناس يتهافت الخلق على قبره حتى يقفوا -ولو للحظات قليلة- خاشعين باكين يُلقون عليه السلام، ويستشعرون ردَّه عليهم بكل ذرة في كيانهم؟! إنها لمن أعجب المشاهد في حياتي أن أرى الناس يتزاحمون بشدة لزيارة قبر رجل مضى على حياته في الأرض أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، وتجد الزائرين من كل أقطار الدنيا وأعراقها؛ منهم العربي ومنهم الأعجمي، منهم الأبيض ومنهم الأسود، منهم الكبير ومنهم الصغير، منهم الرجل ومنهم المرأة، أليس هذا هو رفع الذكر حقًّا؟!
إن هذا الذكر المرفوع لمن أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فلا يمكن لبشر أن يحقق ما حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجد وشرف، وليس هذا إلا لأن الله عز وجل هو الذي فعل، فهو -كما وصف عز وجل- الذي رفع الذكر، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، فالله هنا هو الفاعل، ولا أحد يفعل مثلما يفعل الله عز وجل.
[1] البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1]، (3162).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (194).
[3] مسلم: كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، (2278).
[4] الترمذي: كتاب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم (3615)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (4308)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1571).
[5] البخاري: كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3339)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، (2354)، واللفظ له.
[6] مسلم: كتاب الإيمان، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقة عليهم، (202)، والنسائي (11269)، وابن حبان (7235).
[7] مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، )2383)، والترمذي (3655)، النسائي (8051)، وابن ماجه (93).
[8] مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، )383)، والنسائي (8104)، وأحمد (4182).
[9] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (532) واللفظ له، والنسائي (11123).
د.راغب السرجاني
إننا ندرس سيرة أعظم إنسان خلقه الله عز وجل من لدن آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة، وليس هذا على سبيل المبالغة؛ ولكنها عين الحقيقة فعلاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَنَا سَيِّدُ القَوْمِ يَوْمَ القِيَامَةِ"[1]. وفي رواية: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[2]. وعنه -أيضًا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ"[3]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلاَّ تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ"[4].
إن تدبُّرًا في هذه الأوصاف السابقة لحريٌّ أن يُلقي الرهبة في القلب، والخشوع في الجوارح كلها، ونحن نقرأ عن رجل بهذه القيمة وهذا السموِّ! إن الأنبياء جميعًا -وهم قادة الدنيا وسادتها- سيجتمعون تحت اللواء الذي يحمله يوم القيامة، ومن وسط المليارات التي عاشت على الأرض، ودُفنت فيها، سيكون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مَنْ تنشق عنه الأرض.
إننا نتكلم عن الرسول الماحي الذي محا الله به الكفر، وأعاد الناس -بعد أن ضَلُّوا وفُتِنُوا- إلى جادَّة الطريق، ونتكلم عن الرسول الحاشر الذي لن يُحشَر الناس إلا بعد بعثه يوم القيامة، ونتكلَّم عن الرسول العاقب الذي جاء عقب كل الأنبياء، ولن يأتي نبي أبدًا بعده؛ روى جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي، الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ"[5].
لقد كانت العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وربِّه عز وجل علاقة عجيبة حقًّا؛ لم يخاطبه ربُّه عز وجل في القرآن الكريم باسمه قط، وإنما كان يناديه بـ{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، وبـ{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، وكان يمدحه وهو يعلم أن هذا المدح لن يبطره، فقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وأقسم بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وصرَّح له بأنه سبحانه قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر؛ فقال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وطمأنه أنه سيعطيه حتى الرضا؛ فقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وحَصْرُ مثل هذا في القرآن صعب لكثرة تكراره.
وكان سبحانه إذا رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حزينًا أرسل له جبريل عليه السلام بسرعة ليطمئن عليه، ويُسَكِّن حزنه؛ روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي". وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عز وجل: "يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟" فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: "يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلاَ نَسُوءُكَ"[6].
وعندما زادت معاناته صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من البعثة -وذلك بعد موت خديجة زوجته رضي الله عنها، وعمِّه أبي طالب، وتكذيب الناس له- دعاه الله عز وجل إلى زيارته في السماوات العلا! فكانت رحلة الإسراء والمعراج، وكان التكريم الذي ما بعده تكريم.
إنها أعجب العلاقات فعلاً، وقد صارت هذه العلاقة قريبة حتى كان أفضل توصيف لها أنها علاقة خليل بخليله! روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ خَلِيلاً، لاَتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلاً، وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللهِ"[7]. وفي رواية: "وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ عز وجل صَاحِبَكُمْ خَلِيلاً"[8]. وقال أيضًا: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً"[9]!
إن هذا هو الشرف حقًّا! ولقد رفع الله ذكر حبيبه صلى الله عليه وسلم في الدنيا كلها حتى صار أعلى الناس ذِكْرًا، وأعظم الناس قدرًا؛ قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4]، فكان رفع ذِكْرِه صلى الله عليه وسلم من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم؛ حيث لا يتأتى ذلك لبشر عاديٍّ أبدًا!
هل يعلم الناس اسمًا ذاع انتشاره بين الناس على مدار القرون مثل اسم "محمد"؟ ولو أضفت إلى ذلك أسماءه الأخرى -كأحمد ومحمود ومصطفى- لكان البون شاسعًا بين أي اسم في الدنيا واسم هذا النبي الكريم.
هل هناك من البشر من يرتفع اسمه في الأرض مثلما يتردَّد اسم محمد صلى الله عليه وسلم؟ إن الأذان الذي يرتفع قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. يتردَّد في كل دقيقة -بل في كل لحظة- في كل أوقات الليل والنهار، فما من لحظة في الدنيا إلا ويرتفع فيها أذان في مكان ما.. في مكة أو المدينة أو القدس .. في القاهرة أو بغداد أو الرباط .. في لندن أو باريس أو نيويورك .. في المشارق في اليابان، وفي المغارب في البرازيل! أليس هذا رفعًا عجيبًا لذكره صلى الله عليه وسلم؟
مَنْ من البشر له أتباع كمحمد صلى الله عليه وسلم؟ هل هناك دولة في العالم أو مدينة ليس فيها مسلمون؟ مَنْ مِنَ المفكرين والفلاسفة والقواد والأعلام له أتباع بهذه الصورة؟
مَنْ مِنَ الناس يتهافت الخلق على قبره حتى يقفوا -ولو للحظات قليلة- خاشعين باكين يُلقون عليه السلام، ويستشعرون ردَّه عليهم بكل ذرة في كيانهم؟! إنها لمن أعجب المشاهد في حياتي أن أرى الناس يتزاحمون بشدة لزيارة قبر رجل مضى على حياته في الأرض أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، وتجد الزائرين من كل أقطار الدنيا وأعراقها؛ منهم العربي ومنهم الأعجمي، منهم الأبيض ومنهم الأسود، منهم الكبير ومنهم الصغير، منهم الرجل ومنهم المرأة، أليس هذا هو رفع الذكر حقًّا؟!
إن هذا الذكر المرفوع لمن أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فلا يمكن لبشر أن يحقق ما حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجد وشرف، وليس هذا إلا لأن الله عز وجل هو الذي فعل، فهو -كما وصف عز وجل- الذي رفع الذكر، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، فالله هنا هو الفاعل، ولا أحد يفعل مثلما يفعل الله عز وجل.
[1] البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1]، (3162).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (194).
[3] مسلم: كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، (2278).
[4] الترمذي: كتاب المناقب، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم (3615)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (4308)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1571).
[5] البخاري: كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3339)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، (2354)، واللفظ له.
[6] مسلم: كتاب الإيمان، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقة عليهم، (202)، والنسائي (11269)، وابن حبان (7235).
[7] مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، )2383)، والترمذي (3655)، النسائي (8051)، وابن ماجه (93).
[8] مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، )383)، والنسائي (8104)، وأحمد (4182).
[9] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (532) واللفظ له، والنسائي (11123).
د.راغب السرجاني
ᴛʜᴇ ʀᴇᴅ ғʟᴏωᴇʀ- نجم ستارديس
- تاريخ التسجيل : 29/08/2018المساهمات : 3052نقاط التميز : 5482الجنس :العمر : 25الأبراج :
رد: السيرة النبوية
السيرة النبوية .. إنها قصة رجل له مكانة مرموقة عند خالق الأرض والسماوات، وهذا ما يجعل كتابة قصته أمرًا عسيرًا صعبًا؛ لأن كل تحليل أو خبر لا بد أن يكون موافقًا لما أراده الله وأحبه؛ وإلا كان الخطأ كبيرًا، والذنب عظيمًا.
تفاصيل أحداث السيرة النبوية
وليس هذا فقط الذي يجعل كتابة السيرة أمرًا صعبًا؛ ولكن يزيد من صعوبته أمور أخرى كثيرة! أحد هذه الأمور أن أحداث قصة الرسول صلى الله عليه وسلم سُجِّلَتْ بعناية شديدة، وبتفاصيل دقيقة، وبطريقة فريدة لم تحدث مع أي إنسان قبله أو بعده؛ وذلك لأننا مطالبون بتقليده، واتباع طريقته وسُنَّتِه في كل صغيرة وكبيرة في حياته؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ولذلك سَخَّر الله عز وجل من ينقل لنا كل تفصيل مهما دقَّ في حياته صلى الله عليه وسلم، لقد كان أصحابه يُسَجِّلُون كلماته وأفعاله، ويلفتون النظر دومًا إلى ردود أفعاله، فهنا ظهر الارتياح عليه، وهنا ظهرت الكراهية في قسمات وجهه، وهنا ابتسم، وهنا غضب، كما سَجَّلُوا ما يحدث في حياته الطبيعية كإنسان، كيف كان يأكل، وماذا أكل، وكيف كان تعليقه على طعام وُجد في حضرته، أو سمع به، كيف كان يشرب، وكيف كان يلبس، وكيف كان يمشي، وكيف كان يقاتل .. إنه تصوير عجيب لكل دقائق حياته.
وإذا كانوا يفعلون ذلك مع عاديات حياته فكيف بهم مع أحاديثه ودروسه وخطبه وتعليقاته وأفكاره وأحلامه وطموحاته؛ إنهم نقلوا كل ذلك بدقة حتى صارت حياته مرسومة بكاملها لكل البشر، حتى الذين لم يعاصروه، أو وُجِدُوا بعد زمانه بقرون عديدة.
بل لعلِّي أقول: إن إحدى الحِكَم وراء زواجه من أكثر من امرأة أنها كانت فرصة لهذا العدد الكبير من النساء أن ينقلن واقع بيته الذي لا يراه الناس، فنقلت عائشة وحفصة وأم سلمة -وغيرهن من نساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن أجمعين- ما خَفِيَ عن عيون الناس، فشرحن كيف كان يعاملهن، وكيف كان حاله في بيته وعلى فِراشه، وفي نومه واستيقاظه، وفي عبادته وذِكْرِه، وفي صمته وفِكْرِه، وفي حزنه وفرحه، وفي كل انفعالاته وردود أفعاله.
إنها قصة عجيبة للغاية تلك التي نعرف عنها كل هذه التفاصيل!
أن أحداثها العظيمة كثيرة للغاية
يزيد كذلك من صعوبة كتابة قصة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحداثها العظيمة كثيرة للغاية؛ فنحن نجد أحيانًا في تاريخ بعض الأمم أن حدثًا كبيرًا من أحداثها أخذ لُبَّ المفكرين هناك، فعاشوا القرون المتتالية يحلِّلون الحدث، ويستنبطون الفوائد منه والعبر .. هذا مع حدث واحد أو عدة أحداث على مدار عشرات السنين؛ بينما تجد أن معظم السنوات -باستثناء هذا الحدث- رتيبة تقليدية، ليس فيها جديد أو مثير، وهذا يجعل الكتابة في تاريخ مثل هذه الأمم أمرًا ميسورًا؛ لأنك من الممكن أن تُغْفِل عدة عشرات من السنين دون أن يتأثر السياق التاريخي في شيء؛ أما سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فأحداثها كلها عظيمة، ويمكن توضيح الصورة بضرب مثال واحد يوضِّح ما أرمي إليه.
لو اطَّلعنا على أحداث العام الثاني من الهجرة على سبيل المثال وجدنا فيه هذه الأحداث مجتمعة: غزوة الأبواء في صفر، وغزوة بواط في ربيع الأول، وغزوة سفوان في الشهر نفسه، وغزوة ذات العُشَيْرَة في جمادى الأولى، وسرية نخلة في رجب، ثم غزوة بدر الكبرى بكل أحداثها المجيدة في رمضان من السنة نفسها، ثم غزوة بني قينقاع في شوال.
هذه كلها معارك كبيرة تحتاج إلى تحليل ودراسة وتعليق، فإذا أضفت إلى هذه المعارك حدوث بعض الأمور الأخرى؛ مثل فرض القتال، وفرض الصيام، وفرض الزكاة، وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، إذا أضفت هذه الأمور علمت أن كل واحد منها يحتاج إلى صفحات ومقالا كثيرة ليُنَاقَش فيها ويُدْرَس، وفوق كل ما سبق ظهر في العام الثاني من الهجرة النفاق، وذلك عندما دخل عبد الله بن أبي ابن سلول الإسلام ظاهرًا وهو يُبطن الكفر، وهذا أمر يحتاج إلى مجلدات لدراسة هذه الظاهرة وتبعاتها! وكل ما سبق ما هو إلا أمثلة لما حدث في العام الثاني من الهجرة، فما بالكم بالتدبُّر الكامل فيما حدث في حياته الشخصية صلى الله عليه وسلم، وفي حياة أصحابه، وحياة الأمة بشكل عام، بالإضافة إلى ما حدث في مكة أو العالم متزامنًا مع نشأة الدولة الإسلامية؟!
هذا مجرَّد مثال لضخامة الأحداث في السيرة النبوية، ولو تناولنا أي عام آخر فسنجد الأمر نفسه؛ وهذا يجعل محاولة احتواء السيرة كلها في كتاب واحد أو عدة مقالات أمرًا في غاية الصعوبة.
وليست الأحداث فقط هي التي يمكن أن تُوصَف بالعظمة؛ إنما الأشخاص الذين عاشوا في زمانه صلى الله عليه وسلم كانوا على الدرجة نفسها من العظمة!
إن الجيل العظيم الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق أحداثًا عظيمة لا حصر لها؛ فزمنٌ شهد حياة العظماء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم. زمنٌ يستحق أن يقف الإنسان مع كل لحظة من لحظاته؛ إنه زمن شهد المجاهدين أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن مالك، وشهد المنفقين في سبيل الله كعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة، وأبي الدحداح، وشهد العُبَّاد الزهاد أمثال: أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وشهد العلماء القُرَّاء أمثال: عبد الله بن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وشهد الحُفَّاظ رواة الأحاديث أمثال: أبي هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس.
إنه زمن شهد أمهات المؤمنين أمثال: خديجة، وعائشة، وحفصة، وزينب، وشهد الصحابيات الجليلات أمثال: أسماء بنت أبي بكر، وأم عمارة، وأم حرام بنت ملحان. إنه زمن شهد المهاجرين والأنصار، وشهد الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وشهد الأطفال الذين ترعرعوا في حدائق الإيمان كعبد الله بن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد .. إنه زمن عجيب!
إن كُلَّ صحابي أو صحابية خلق عشرات ومئات بل وآلاف المواقف النادرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذه المواقف ما هي إلا صفحات من السيرة النبوية، ولو لم يكن هؤلاء عظماء ما خُلِقَت هذه المواقف، ولكنهم بإيجابيتهم وتضحياتهم ودقَّة أفهامهم، وحسن تصرفهم، وحميتهم للدين، وإخلاصهم لله عز وجل، وتجردهم لدعوتههم، تفاعلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاعلاً أثرى السيرة النبوية ثراءً لا مثيل له، ولن تجد نبيًّا من الأنبياء، أو مصلحًا من المصلحين، على مدار عمر البشرية كان له من الأصحاب مثلما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" [1].
التنوع الكبير الذي ميَّز حياة الرسول
وأخيرًا يزيد من صعوبة كتابة السيرة التنوع الكبير الذي ميَّز حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها متفرِّدة ومختلفة عن حياة أي إنسان آخر. وعلى سبيل المثال فإن الفقير الذي عاش حياته كلها فقيرًا، أو الغني الذي عاش حياته كلها غنيًّا، يمكن أن تُلَخِّص حياته في يسر وسهولة، فتقول: عاش حياته مُعْدمًا، أو عاش حياته موفور المال. ولكن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن كذلك؛ إنما شملت كل المتنوعات التي يمكن أن تقابل المسلم في حياته.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من حياته فقيرًا لا يجد ما يسد رمقه، ليس له من طعام إلا التمر والماء، أو كان يربط الحجر والحجرين على بطنه من الجوع؛ بينما عاش في فترة أخرى من فترات السيرة وقد أتته أموال العرب، وصار يعطي عطاءً لم يُعْرَف بين الناس، وبين هذا وذاك كانت هناك فترات أخرى يُوجَد فيها المال دون أن يكون وفيرًا.
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة من فترات حياته مضطهدًا معذَّبًا طريدًا هو وأصحابه، وعاش فترة أخرى ممكَّنًا في الأرض قويًّا عزيزًا، يسمع العرب جميعًا لكلماته. عاش حاكمًا وعاش محكومًا، وعاش مسالمًا وعاش محاربًا، وعاش لحظات النصر وذاق مرارة المصيبة، عاهد اليهود والنصارى في جانب من السيرة وقاتلهما في جانب آخر، وراسل كسرى وقيصر في فترة من فترات حياته، وأعلن الحرب عليهما في فترة أخرى.
رأيناه شابًّا يطلب الزواج، ورأيناه متزوِّجًا من واحدة لا يجمع معها أخرى، ورأيناه متزوِّجًا من عدَّة نساء معًا، ورأيناه أرملاً بلا زوجة، ورأيناه مطلِّقًا لزوجة من زوجاته. رأيناه يقضي بين الناس، ويأخذ القرارات السياسية الكبيرة، ويشرِّع القوانين الاقتصادية والتجارية، ويتعامل بالدرهم والدينار، ويعطي الدروس والمواعظ، ويعلِّم الصغير والكبير.
وغير ذلك من التنوعات رأيناه!
لا شك عندي في أن كل أحداث الدنيا قد كُثِّفَت في حياته صلى الله عليه وسلم، فحَدَثَ له ولأصحابه كل ما يمكن أن يحدث لمسلم في حياته؛ حتى تقام الحُجَّة على كل مسلم ومسلمة، فلا يقتدي به فقير دون غني، ولا حاكم دون محكوم، ولا شاب دون شيخ، ولا عربي دون أعجمي؛ بل يُصبح قدوة صالحة للتطبيق يقتدي بها كل مَنْ قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
هذه هي السيرة النبوية! أليست قصةً صعبة التسجيل حقًّا؟!
لذلك صار من الصعب جدًّا على إنسان أن يتناول كل جوانب حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ -فمن ناحية عملية- ينبغي لكل مَنْ أراد أن يُسَجِّل أحداث هذه السيرة العظيمة أن يختار جانبًا من الجوانب فيتناوله بالشرح والتفصيل، ويترك في الوقت نفسه -عامدًا- بقية الجوانب؛ وذلك حتى لا يتشعَّب به الحديث ويتفرَّع، ويُصبح غير قادر على إيصال مفهوم محدَّد لقرَّائه.
ولقد كنتُ مهتمًّا أثناء قراءتي لأحداث السيرة النبوية -وكذلك عند قراءتي لصفحات التاريخ الإسلامي أو الإنساني بشكل عام- بدراسة عوامل بناء الأمم أو سقوطها، وأحسب أن هذا منظورٌ نحتاجه بشكل خاص في زماننا؛ لكون الخلافة الإسلامية قد سقطت منذ ما يقرب من مائة عام حتى هذه اللحظة التي تُكتب فيها هذه المقالات، وغُيِّب الشرع عن حياة المسلمين، واحتاج المسلمون بشدة أن يعيدوا بناء أمتهم من جديد، وأرى أن البناء لن يكون قويًّا وصالحًا للاستمرار والبقاء إلا إذا كان على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيناه يبني أمته باقتدار، ويجعل لها مكانًا مرموقًا بين الأمم بطريقة فذَّة فريدة، وأدركت إدراكًا كاملاً أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فعقدت العزم على كتابة هذه المقالات من هذا المنظور؛ أعني من منظور بناء الأمة الإسلامية، فحرصت على دراسة أسباب القوَّة في البناء، والعوائق التي اعترضت طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تعامل معها وتغلَّب عليها؛ ومن ثَمَّ يتوفر عندنا ما يجعل من السيرة نورًا نرى به في ظلمات الدنيا، فنعرف اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف الظروف التي مرت به: فهنا حارب، وهنا سَالَمَ، وهنا رضي، وهنا غضب، وهنا وافق على أمر، وهنا رفضه، فتُصبح عندها قراءة السيرة النبوية سببًا في تغيير قراراتنا إلى الأحكم والأصوب، وتُصبح -بحقٍّ- مخرجةً لنا من الظلمات على النور.
ولعلَّه لهذا السبب لم أُضَمِّن في مقالاتي الفترة الطويلة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهي فترة الأربعين سنة الأولى من عمره؛ وذلك مع العلم أنها فترة مهمَّة للغاية، وفيها من الدروس والعبر ما لا يُحصى، ولكنها قد تكون -نسبيًّا- خارجة عن منظور البناء الذي انتهجته في مقالاتي؛ ومع ذلك فأنا أعتزم -لو كان في العمر بقية وبركة- أن أُسَجِّل أحداث هذه الفترة الذهبية في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب مستقلٍّ أو مقالات مستقلة تبين تفاصيل إعداده صلى الله عليه وسلم؛ من يوم مولده، وإلى يوم بعثته الشريفة.
[1] البخاري: كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، (2509)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (2533
تفاصيل أحداث السيرة النبوية
وليس هذا فقط الذي يجعل كتابة السيرة أمرًا صعبًا؛ ولكن يزيد من صعوبته أمور أخرى كثيرة! أحد هذه الأمور أن أحداث قصة الرسول صلى الله عليه وسلم سُجِّلَتْ بعناية شديدة، وبتفاصيل دقيقة، وبطريقة فريدة لم تحدث مع أي إنسان قبله أو بعده؛ وذلك لأننا مطالبون بتقليده، واتباع طريقته وسُنَّتِه في كل صغيرة وكبيرة في حياته؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ولذلك سَخَّر الله عز وجل من ينقل لنا كل تفصيل مهما دقَّ في حياته صلى الله عليه وسلم، لقد كان أصحابه يُسَجِّلُون كلماته وأفعاله، ويلفتون النظر دومًا إلى ردود أفعاله، فهنا ظهر الارتياح عليه، وهنا ظهرت الكراهية في قسمات وجهه، وهنا ابتسم، وهنا غضب، كما سَجَّلُوا ما يحدث في حياته الطبيعية كإنسان، كيف كان يأكل، وماذا أكل، وكيف كان تعليقه على طعام وُجد في حضرته، أو سمع به، كيف كان يشرب، وكيف كان يلبس، وكيف كان يمشي، وكيف كان يقاتل .. إنه تصوير عجيب لكل دقائق حياته.
وإذا كانوا يفعلون ذلك مع عاديات حياته فكيف بهم مع أحاديثه ودروسه وخطبه وتعليقاته وأفكاره وأحلامه وطموحاته؛ إنهم نقلوا كل ذلك بدقة حتى صارت حياته مرسومة بكاملها لكل البشر، حتى الذين لم يعاصروه، أو وُجِدُوا بعد زمانه بقرون عديدة.
بل لعلِّي أقول: إن إحدى الحِكَم وراء زواجه من أكثر من امرأة أنها كانت فرصة لهذا العدد الكبير من النساء أن ينقلن واقع بيته الذي لا يراه الناس، فنقلت عائشة وحفصة وأم سلمة -وغيرهن من نساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن أجمعين- ما خَفِيَ عن عيون الناس، فشرحن كيف كان يعاملهن، وكيف كان حاله في بيته وعلى فِراشه، وفي نومه واستيقاظه، وفي عبادته وذِكْرِه، وفي صمته وفِكْرِه، وفي حزنه وفرحه، وفي كل انفعالاته وردود أفعاله.
إنها قصة عجيبة للغاية تلك التي نعرف عنها كل هذه التفاصيل!
أن أحداثها العظيمة كثيرة للغاية
يزيد كذلك من صعوبة كتابة قصة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحداثها العظيمة كثيرة للغاية؛ فنحن نجد أحيانًا في تاريخ بعض الأمم أن حدثًا كبيرًا من أحداثها أخذ لُبَّ المفكرين هناك، فعاشوا القرون المتتالية يحلِّلون الحدث، ويستنبطون الفوائد منه والعبر .. هذا مع حدث واحد أو عدة أحداث على مدار عشرات السنين؛ بينما تجد أن معظم السنوات -باستثناء هذا الحدث- رتيبة تقليدية، ليس فيها جديد أو مثير، وهذا يجعل الكتابة في تاريخ مثل هذه الأمم أمرًا ميسورًا؛ لأنك من الممكن أن تُغْفِل عدة عشرات من السنين دون أن يتأثر السياق التاريخي في شيء؛ أما سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فأحداثها كلها عظيمة، ويمكن توضيح الصورة بضرب مثال واحد يوضِّح ما أرمي إليه.
لو اطَّلعنا على أحداث العام الثاني من الهجرة على سبيل المثال وجدنا فيه هذه الأحداث مجتمعة: غزوة الأبواء في صفر، وغزوة بواط في ربيع الأول، وغزوة سفوان في الشهر نفسه، وغزوة ذات العُشَيْرَة في جمادى الأولى، وسرية نخلة في رجب، ثم غزوة بدر الكبرى بكل أحداثها المجيدة في رمضان من السنة نفسها، ثم غزوة بني قينقاع في شوال.
هذه كلها معارك كبيرة تحتاج إلى تحليل ودراسة وتعليق، فإذا أضفت إلى هذه المعارك حدوث بعض الأمور الأخرى؛ مثل فرض القتال، وفرض الصيام، وفرض الزكاة، وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، إذا أضفت هذه الأمور علمت أن كل واحد منها يحتاج إلى صفحات ومقالا كثيرة ليُنَاقَش فيها ويُدْرَس، وفوق كل ما سبق ظهر في العام الثاني من الهجرة النفاق، وذلك عندما دخل عبد الله بن أبي ابن سلول الإسلام ظاهرًا وهو يُبطن الكفر، وهذا أمر يحتاج إلى مجلدات لدراسة هذه الظاهرة وتبعاتها! وكل ما سبق ما هو إلا أمثلة لما حدث في العام الثاني من الهجرة، فما بالكم بالتدبُّر الكامل فيما حدث في حياته الشخصية صلى الله عليه وسلم، وفي حياة أصحابه، وحياة الأمة بشكل عام، بالإضافة إلى ما حدث في مكة أو العالم متزامنًا مع نشأة الدولة الإسلامية؟!
هذا مجرَّد مثال لضخامة الأحداث في السيرة النبوية، ولو تناولنا أي عام آخر فسنجد الأمر نفسه؛ وهذا يجعل محاولة احتواء السيرة كلها في كتاب واحد أو عدة مقالات أمرًا في غاية الصعوبة.
وليست الأحداث فقط هي التي يمكن أن تُوصَف بالعظمة؛ إنما الأشخاص الذين عاشوا في زمانه صلى الله عليه وسلم كانوا على الدرجة نفسها من العظمة!
إن الجيل العظيم الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق أحداثًا عظيمة لا حصر لها؛ فزمنٌ شهد حياة العظماء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم. زمنٌ يستحق أن يقف الإنسان مع كل لحظة من لحظاته؛ إنه زمن شهد المجاهدين أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، والبراء بن مالك، وشهد المنفقين في سبيل الله كعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة، وأبي الدحداح، وشهد العُبَّاد الزهاد أمثال: أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وشهد العلماء القُرَّاء أمثال: عبد الله بن مسعود، وأُبَيِّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وشهد الحُفَّاظ رواة الأحاديث أمثال: أبي هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس.
إنه زمن شهد أمهات المؤمنين أمثال: خديجة، وعائشة، وحفصة، وزينب، وشهد الصحابيات الجليلات أمثال: أسماء بنت أبي بكر، وأم عمارة، وأم حرام بنت ملحان. إنه زمن شهد المهاجرين والأنصار، وشهد الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وشهد الأطفال الذين ترعرعوا في حدائق الإيمان كعبد الله بن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد .. إنه زمن عجيب!
إن كُلَّ صحابي أو صحابية خلق عشرات ومئات بل وآلاف المواقف النادرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذه المواقف ما هي إلا صفحات من السيرة النبوية، ولو لم يكن هؤلاء عظماء ما خُلِقَت هذه المواقف، ولكنهم بإيجابيتهم وتضحياتهم ودقَّة أفهامهم، وحسن تصرفهم، وحميتهم للدين، وإخلاصهم لله عز وجل، وتجردهم لدعوتههم، تفاعلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاعلاً أثرى السيرة النبوية ثراءً لا مثيل له، ولن تجد نبيًّا من الأنبياء، أو مصلحًا من المصلحين، على مدار عمر البشرية كان له من الأصحاب مثلما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" [1].
التنوع الكبير الذي ميَّز حياة الرسول
وأخيرًا يزيد من صعوبة كتابة السيرة التنوع الكبير الذي ميَّز حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها متفرِّدة ومختلفة عن حياة أي إنسان آخر. وعلى سبيل المثال فإن الفقير الذي عاش حياته كلها فقيرًا، أو الغني الذي عاش حياته كلها غنيًّا، يمكن أن تُلَخِّص حياته في يسر وسهولة، فتقول: عاش حياته مُعْدمًا، أو عاش حياته موفور المال. ولكن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن كذلك؛ إنما شملت كل المتنوعات التي يمكن أن تقابل المسلم في حياته.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من حياته فقيرًا لا يجد ما يسد رمقه، ليس له من طعام إلا التمر والماء، أو كان يربط الحجر والحجرين على بطنه من الجوع؛ بينما عاش في فترة أخرى من فترات السيرة وقد أتته أموال العرب، وصار يعطي عطاءً لم يُعْرَف بين الناس، وبين هذا وذاك كانت هناك فترات أخرى يُوجَد فيها المال دون أن يكون وفيرًا.
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة من فترات حياته مضطهدًا معذَّبًا طريدًا هو وأصحابه، وعاش فترة أخرى ممكَّنًا في الأرض قويًّا عزيزًا، يسمع العرب جميعًا لكلماته. عاش حاكمًا وعاش محكومًا، وعاش مسالمًا وعاش محاربًا، وعاش لحظات النصر وذاق مرارة المصيبة، عاهد اليهود والنصارى في جانب من السيرة وقاتلهما في جانب آخر، وراسل كسرى وقيصر في فترة من فترات حياته، وأعلن الحرب عليهما في فترة أخرى.
رأيناه شابًّا يطلب الزواج، ورأيناه متزوِّجًا من واحدة لا يجمع معها أخرى، ورأيناه متزوِّجًا من عدَّة نساء معًا، ورأيناه أرملاً بلا زوجة، ورأيناه مطلِّقًا لزوجة من زوجاته. رأيناه يقضي بين الناس، ويأخذ القرارات السياسية الكبيرة، ويشرِّع القوانين الاقتصادية والتجارية، ويتعامل بالدرهم والدينار، ويعطي الدروس والمواعظ، ويعلِّم الصغير والكبير.
وغير ذلك من التنوعات رأيناه!
لا شك عندي في أن كل أحداث الدنيا قد كُثِّفَت في حياته صلى الله عليه وسلم، فحَدَثَ له ولأصحابه كل ما يمكن أن يحدث لمسلم في حياته؛ حتى تقام الحُجَّة على كل مسلم ومسلمة، فلا يقتدي به فقير دون غني، ولا حاكم دون محكوم، ولا شاب دون شيخ، ولا عربي دون أعجمي؛ بل يُصبح قدوة صالحة للتطبيق يقتدي بها كل مَنْ قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
هذه هي السيرة النبوية! أليست قصةً صعبة التسجيل حقًّا؟!
لذلك صار من الصعب جدًّا على إنسان أن يتناول كل جوانب حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ -فمن ناحية عملية- ينبغي لكل مَنْ أراد أن يُسَجِّل أحداث هذه السيرة العظيمة أن يختار جانبًا من الجوانب فيتناوله بالشرح والتفصيل، ويترك في الوقت نفسه -عامدًا- بقية الجوانب؛ وذلك حتى لا يتشعَّب به الحديث ويتفرَّع، ويُصبح غير قادر على إيصال مفهوم محدَّد لقرَّائه.
ولقد كنتُ مهتمًّا أثناء قراءتي لأحداث السيرة النبوية -وكذلك عند قراءتي لصفحات التاريخ الإسلامي أو الإنساني بشكل عام- بدراسة عوامل بناء الأمم أو سقوطها، وأحسب أن هذا منظورٌ نحتاجه بشكل خاص في زماننا؛ لكون الخلافة الإسلامية قد سقطت منذ ما يقرب من مائة عام حتى هذه اللحظة التي تُكتب فيها هذه المقالات، وغُيِّب الشرع عن حياة المسلمين، واحتاج المسلمون بشدة أن يعيدوا بناء أمتهم من جديد، وأرى أن البناء لن يكون قويًّا وصالحًا للاستمرار والبقاء إلا إذا كان على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيناه يبني أمته باقتدار، ويجعل لها مكانًا مرموقًا بين الأمم بطريقة فذَّة فريدة، وأدركت إدراكًا كاملاً أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فعقدت العزم على كتابة هذه المقالات من هذا المنظور؛ أعني من منظور بناء الأمة الإسلامية، فحرصت على دراسة أسباب القوَّة في البناء، والعوائق التي اعترضت طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف تعامل معها وتغلَّب عليها؛ ومن ثَمَّ يتوفر عندنا ما يجعل من السيرة نورًا نرى به في ظلمات الدنيا، فنعرف اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف الظروف التي مرت به: فهنا حارب، وهنا سَالَمَ، وهنا رضي، وهنا غضب، وهنا وافق على أمر، وهنا رفضه، فتُصبح عندها قراءة السيرة النبوية سببًا في تغيير قراراتنا إلى الأحكم والأصوب، وتُصبح -بحقٍّ- مخرجةً لنا من الظلمات على النور.
ولعلَّه لهذا السبب لم أُضَمِّن في مقالاتي الفترة الطويلة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهي فترة الأربعين سنة الأولى من عمره؛ وذلك مع العلم أنها فترة مهمَّة للغاية، وفيها من الدروس والعبر ما لا يُحصى، ولكنها قد تكون -نسبيًّا- خارجة عن منظور البناء الذي انتهجته في مقالاتي؛ ومع ذلك فأنا أعتزم -لو كان في العمر بقية وبركة- أن أُسَجِّل أحداث هذه الفترة الذهبية في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب مستقلٍّ أو مقالات مستقلة تبين تفاصيل إعداده صلى الله عليه وسلم؛ من يوم مولده، وإلى يوم بعثته الشريفة.
[1] البخاري: كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، (2509)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (2533
ᴛʜᴇ ʀᴇᴅ ғʟᴏωᴇʀ- نجم ستارديس
- تاريخ التسجيل : 29/08/2018المساهمات : 3052نقاط التميز : 5482الجنس :العمر : 25الأبراج :
رد: السيرة النبوية
موضوع جد مميّز و ممتع كالعادة بارك الله فيك
شموخ القوافي- عضو ستارديس
- تاريخ التسجيل : 29/08/2018المساهمات : 1461نقاط التميز : 1687الجنس :العمر : 32الأبراج :
مواضيع مماثلة
» أول من كتب في السيرة النبوية
» يوميات في السيرة النبوية
» من خصائص السيرة النبوية
» السيرة النبوية في فهم الإسلام
» دراسة السيرة النبوية ومعرفتها
» يوميات في السيرة النبوية
» من خصائص السيرة النبوية
» السيرة النبوية في فهم الإسلام
» دراسة السيرة النبوية ومعرفتها
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى