القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
من المباحث العَقَدية التي يُشكل فهمُها على بعض الناس، بل على كثيرٍ منهم، عدمُ التفرقة بين الإيمان بالقضاء والقدر، وبين الرضا بالقضاء والقدر.
فتجدهم في أوقات الرخاء والسعة، يتحدثون عن وجوب الرضا بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، كما تجدهم يستحسنون هذا إذا سمعوه في موعظة، أو قرأوه في كتاب، ولا يجدون إشكالًا في تقبله.
فإذا أصابهم قضاء مكروه لهم، كموت الولد، أو فقد المال، أو اعتلال الصحة، أو تعثر في الحياة، أو خسارة في التجارة، تراهم يستشكلون وجوب الرضا بهذا القضاء، التي اعتاد الناس جميعهم على كراهيته وعدم الترحيب به، وكأنهم ليسوا هم أولئك الذين كانوا بالأمس القريب لا يجدون إشكالًا فكريًا فيما يرونه من أعظم المشكلات اليوم!
وليس غرضنا هنا أن نخوض في أسباب التفرقة بين سيكولوجية النفس إبان العافية، وبينها إبان الابتلاء، وما يكون من فروق وجدانية بين الحالتين.
ولكن مقصودنا أن نبين الفرق بين مقامي ( الإيمان بالقضاء والقدر)، و( الرضا بالقضاء والقدر).
ويحسن بنا أن نعرف ابتداء المراد بالقضاء والقدر.
معنى القدر : “تقدير كل شيء تقديرًا مسبقًا على خلقه وحدوثه، أي تحديد ماهيته وخاصيته وصفته كما وكيفا، وزمانا ومكانا”
معنى القضاء : “حدوث الشيء أو الفعل بأهميته وخاصته وصفته وكيفه وكما في الزمان والمكان حسب إرادة الله عز وجل” [ انظر القضاء والقدر في الإسلام، فاروق الدسوقي(1/327)]
الإيمان بالقضاء والقدر مراتب
ذكر العلماء أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان للحديث المشهور الذي عدد أركان الإيمان، فذكر منها : “”«سأل جبريل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الإيمان بعد أن سأله عن الإسلام قال: فأخبرني عن الإيمان؟ فقال: ” أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»
لكنهم يذكرون كذلك أن الإيمان بالقضاء والقدر يشتمل على أربع مراتب، ليس من بينها (الرضا بالقضاء والقدر) فما هي هذه المراتب؟
المرتبة الأولى: علم الله بالقضاء والقدر قبل حدوث المقضيات والمقدرات، ومعناها: أن نؤمن بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلًا فيما يتعلق بفعله الذي يفعله – عز وجل – بنفسه كالخلق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر وغير ذلك، أو يتعلق بفعل المخلوقين، كأقوال الإنسان، وأفعاله، بل حتى أفعال الحيوان كلها معلومة لله – عز وجل – قبل وقوعها، وأدلة هذه المرتبة كثيرة منها قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]، ومنها قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ، ومنها قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] .
المرتبة الثانية: الكتابة، أي كتابة الله المقضياتِ والمقدراتِ قبل حدوثها. ومعناها: أن نؤمن بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة. ومما يدل على ذلك، قوله تعالى : {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ } [الحج: 70] ، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] ، وقوله تعالى : {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]
فهذه الآيات تتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها وحفظها لها والإحاطة بعددها وإثباتها.
المرتبة الثالثة: المشيئة، أي مشيئة الله للمقضيات والمقدرات قبل حدوثها ومعناها: أن نؤمن بأن كل كائن وجودا أو عدما فهو بمشيئة الله، فليس في الوجود موجِب إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] والاقتتال فعل العبد فجعله الله – عز وجل – بمشيئته.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 112] ،وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137]، وقال تعالى :{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً} [هود: 118]
وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، إذا فأفعالنا واقعة بمشيئة الله.
المرتبة الرابعة: الخلق، ومعناها: الإيمان بأن الله – سبحانه وتعالى – خلق كل شيء، فنؤمن بعموم خلق الله تعالى لكل شيء.
ودليل ذلك قال الله تعالى: {لَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] ، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر: 62] ، وقال تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] ، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]
والآيات في ذلك كثيرة، وهي تفيد: أن كل شيء مخلوق لله – عز وجل – حتى فعل الإنسان مخلوق لله – تعالى – وإن كان باختياره وإرادته وفعله، لكنه مخلوق لله – تعالى -. فالقدر، هو قدرة الله، وعلمه، ومشيئته، وخلقه لكل المقدرات. فلا تتحرك ذرزة فما فوقها إلا بمشيئته وقدرته وعلمه.
ما الصعوبة في ذلك؟
ولعل قائلًا يقول : وما الصعوبة في الإيمان بأنه لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وقدرته وعلمه وخلقه! هذا القَدْرُ يفهمه أطفالنا قبل رجالنا، ولا نزاع فيه بين أحد؟
والحق أن الأمر ليس بهذه البساطة، فقد ضلت أقوام، ونشأت فِرَق على إنكار ورفض هذه المراتب الأربعة كلها أو بعضها، ولم تستسغ عقولهم الإيمان والتسليم بها.
فالفلاسفة المؤلهون يقولون بأن الله يعلم الكليات التي تحصل في العالم، أما الأمور الجزئية، فإنه لا يعلمها إلا على وجه الإجمال، وإذا لم يعلم، فهو لم يكتب، هذا عن العلم والكتابة، وهما المرتبتان الأوليان.
أما المرتبتان الأخريان (المشيئة والخلق) فالله عندهم لا يفعل شيئا بمشيئته، و لا يقدر على تغيير شيء من العالم! الرد على المنطقيين (ص: 104)، و تهافت الفلاسفة (ص: 177)]
والمعتزلة، وهي فرقة تاريخية من فرق المسلمين تقول : “إن ما يفعله الناس، إنما يفعلونه باختيارهم وفعلهم المحض، دون أن يشاءه الله أو يخلقه، فعلى قولهم : يكون في الكون مالا يخلقه الله، وما لا يشاؤه ، وما لايريده، ولا يقدر الله أن يغير شيئا منه” وهو نسف للمراتب الأربعة التي ذكرناها للإيمان بالقدر؛ ولذلك سموا ( قَدَريَّة) أي ينفون القَدَر.
وبمقابل هؤلاء توجد فرقة ( الجبرية) وهي فرقة تاريخية من فرق المسلمين، وهي تقول عكس ما يقوله المعتزلة تماما، حيث تؤمن بالمراتب الأربعة التي ذكرناها للقدر، لكنها تزيد عليها، أن أفعال البشر هي أفعال الله على الحقيقة، وأن الناس لايفعلون شيئا، فهم أشبه بالعرائس الكرتونية بمسرح العرائس، يحركهم الله رغمًا عنهم، ثم يحاسبهم على ما يأتون رغما عنهم ،فإن الله هو الفاعل الحقيقي بقوته وليس للعبد إلا نسبة الفعل إليه عن طريق المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة ونحو ذلك، فسلبوا عن العبد القدرة والمشيئة التي أخبر الله تعالى عنها، وجعلوا العبد أشبه ما يكون بالجماد المسير من غيره. .[ فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها (1/ 122)]
ويأتي إيمان أهل السنة والجماعة، في المرتبة الوسط، الذي سبق أن بينا معالمه.
الرضا بالقضاء والقدر
الرضا بالقضاء والقدر ليس مرتبة من مراتب الإيمان به، فقد ذكرنا المراتب الأربعة الواجبة، وأما الرضا بالقضاء والقدر، فقد اختلف العلماء في حكمه، هل هو واجب أو مستحب ؟ ومن قال بوجوبه، لم يجعله من مراتب الإيمان، ولكنه واجب عندهم وجوب الواجبات الفقهية لا العَقَدية، كما أن من أوجبه فرق بين القضاء، الذي هو فعل الله، فجعل هذا هو محل الرضا، وبين المقضي الذي فعل الإنسان وكسبه، فلم يجعله محلًّا للوجوب، فمن قُتل ولدُه، عليه أن يرضى بقضاء الله وتقديره بإماتة ولده، لكن ليس عليه أن يرضى عن فعل القاتل [الفروق، القرافي(4/ 250)]
يقول ابن القيم :
تنازع الناس في حكم الرضا بالقضاء، هل هو واجب أو مستحب على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد، فمنهم من أوجبه .
ومنهم من قال: هو مستحب غير واجب؛ فإن الإيجاب يستلزم دليلا شرعيا، ولا دليل يدل على الوجوب، وهذا القول أرجح؛ فإن الرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات.[ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 278)]
وأيا ما كان الأمر، فإنه يجب الصبر على القضاء المكروه، وعدم التسخط على الله تعالى، وهذا شيء غير الرضا بالقضاء والقدر.
وعلى هذا ، فإن الإيمان بالقضاء والقدر لا يستلزم الرضا به، ولا يستلزم السكوت عن المنكرات والمظالم والفساد بتُكَأَة أنها قضاء الله وقدره!
وفي تجلية هذا المعنى يقول الدكتور القرضاوي: “رضا الإنسان عن الله، وعن السير العام للكون والحياة. لا يستلزم الرضا عن كل ما يراه على مسرح الحياة من شذوذ وانحراف جزئي مصدره هذا الإنسان المكلف المختار.
إن رضا الإنسان عن السيارات وركوبها، ليس معناه الرضا عما تسببه من حوادث، وما يرتكبه سائقوها من مخالفات لقواعد المرور وآداب الطريق.
لقد رضي المؤمن عن نظام الله في الكون. ومن هذا النظام ما منح الله من عقل واختيار للإنسان على أساسهما يتحمل المسئولية، ويكون أهلاً للزجر والثورة عليه، وتأديبه وتقويمه.
فالمؤمن راض عن نظام الوجود، ساخط على انحراف الإنسان الذي لم يقم بشكر الله على نعمة العقل والإرادة التي منحها. بل سخر نعمة الله في غير ما خلقت له.
وهذا السخط على الشذوذ والانحراف البشري سخط يرضاه الله، بل يأمر به، ويتوعد المهدرين له، والساكتين عنه، بالعذاب الشديد (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) (هود: 116) (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داوود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون) (المائدة: 78، 79).” [الإيمان والحياة، القرضاوي، ص 154].
إسلام أون لاين
من المباحث العَقَدية التي يُشكل فهمُها على بعض الناس، بل على كثيرٍ منهم، عدمُ التفرقة بين الإيمان بالقضاء والقدر، وبين الرضا بالقضاء والقدر.
فتجدهم في أوقات الرخاء والسعة، يتحدثون عن وجوب الرضا بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، كما تجدهم يستحسنون هذا إذا سمعوه في موعظة، أو قرأوه في كتاب، ولا يجدون إشكالًا في تقبله.
فإذا أصابهم قضاء مكروه لهم، كموت الولد، أو فقد المال، أو اعتلال الصحة، أو تعثر في الحياة، أو خسارة في التجارة، تراهم يستشكلون وجوب الرضا بهذا القضاء، التي اعتاد الناس جميعهم على كراهيته وعدم الترحيب به، وكأنهم ليسوا هم أولئك الذين كانوا بالأمس القريب لا يجدون إشكالًا فكريًا فيما يرونه من أعظم المشكلات اليوم!
وليس غرضنا هنا أن نخوض في أسباب التفرقة بين سيكولوجية النفس إبان العافية، وبينها إبان الابتلاء، وما يكون من فروق وجدانية بين الحالتين.
ولكن مقصودنا أن نبين الفرق بين مقامي ( الإيمان بالقضاء والقدر)، و( الرضا بالقضاء والقدر).
ويحسن بنا أن نعرف ابتداء المراد بالقضاء والقدر.
معنى القدر : “تقدير كل شيء تقديرًا مسبقًا على خلقه وحدوثه، أي تحديد ماهيته وخاصيته وصفته كما وكيفا، وزمانا ومكانا”
معنى القضاء : “حدوث الشيء أو الفعل بأهميته وخاصته وصفته وكيفه وكما في الزمان والمكان حسب إرادة الله عز وجل” [ انظر القضاء والقدر في الإسلام، فاروق الدسوقي(1/327)]
الإيمان بالقضاء والقدر مراتب
ذكر العلماء أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان للحديث المشهور الذي عدد أركان الإيمان، فذكر منها : “”«سأل جبريل النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الإيمان بعد أن سأله عن الإسلام قال: فأخبرني عن الإيمان؟ فقال: ” أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره»
لكنهم يذكرون كذلك أن الإيمان بالقضاء والقدر يشتمل على أربع مراتب، ليس من بينها (الرضا بالقضاء والقدر) فما هي هذه المراتب؟
المرتبة الأولى: علم الله بالقضاء والقدر قبل حدوث المقضيات والمقدرات، ومعناها: أن نؤمن بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلًا فيما يتعلق بفعله الذي يفعله – عز وجل – بنفسه كالخلق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر وغير ذلك، أو يتعلق بفعل المخلوقين، كأقوال الإنسان، وأفعاله، بل حتى أفعال الحيوان كلها معلومة لله – عز وجل – قبل وقوعها، وأدلة هذه المرتبة كثيرة منها قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]، ومنها قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ، ومنها قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] .
المرتبة الثانية: الكتابة، أي كتابة الله المقضياتِ والمقدراتِ قبل حدوثها. ومعناها: أن نؤمن بأن الله تعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة. ومما يدل على ذلك، قوله تعالى : {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ } [الحج: 70] ، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] ، وقوله تعالى : {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]
فهذه الآيات تتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها وحفظها لها والإحاطة بعددها وإثباتها.
المرتبة الثالثة: المشيئة، أي مشيئة الله للمقضيات والمقدرات قبل حدوثها ومعناها: أن نؤمن بأن كل كائن وجودا أو عدما فهو بمشيئة الله، فليس في الوجود موجِب إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ودليل ذلك من الكتاب قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] والاقتتال فعل العبد فجعله الله – عز وجل – بمشيئته.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 112] ،وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137]، وقال تعالى :{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً} [هود: 118]
وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، إذا فأفعالنا واقعة بمشيئة الله.
المرتبة الرابعة: الخلق، ومعناها: الإيمان بأن الله – سبحانه وتعالى – خلق كل شيء، فنؤمن بعموم خلق الله تعالى لكل شيء.
ودليل ذلك قال الله تعالى: {لَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] ، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر: 62] ، وقال تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] ، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]
والآيات في ذلك كثيرة، وهي تفيد: أن كل شيء مخلوق لله – عز وجل – حتى فعل الإنسان مخلوق لله – تعالى – وإن كان باختياره وإرادته وفعله، لكنه مخلوق لله – تعالى -. فالقدر، هو قدرة الله، وعلمه، ومشيئته، وخلقه لكل المقدرات. فلا تتحرك ذرزة فما فوقها إلا بمشيئته وقدرته وعلمه.
ما الصعوبة في ذلك؟
ولعل قائلًا يقول : وما الصعوبة في الإيمان بأنه لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وقدرته وعلمه وخلقه! هذا القَدْرُ يفهمه أطفالنا قبل رجالنا، ولا نزاع فيه بين أحد؟
والحق أن الأمر ليس بهذه البساطة، فقد ضلت أقوام، ونشأت فِرَق على إنكار ورفض هذه المراتب الأربعة كلها أو بعضها، ولم تستسغ عقولهم الإيمان والتسليم بها.
فالفلاسفة المؤلهون يقولون بأن الله يعلم الكليات التي تحصل في العالم، أما الأمور الجزئية، فإنه لا يعلمها إلا على وجه الإجمال، وإذا لم يعلم، فهو لم يكتب، هذا عن العلم والكتابة، وهما المرتبتان الأوليان.
أما المرتبتان الأخريان (المشيئة والخلق) فالله عندهم لا يفعل شيئا بمشيئته، و لا يقدر على تغيير شيء من العالم! الرد على المنطقيين (ص: 104)، و تهافت الفلاسفة (ص: 177)]
والمعتزلة، وهي فرقة تاريخية من فرق المسلمين تقول : “إن ما يفعله الناس، إنما يفعلونه باختيارهم وفعلهم المحض، دون أن يشاءه الله أو يخلقه، فعلى قولهم : يكون في الكون مالا يخلقه الله، وما لا يشاؤه ، وما لايريده، ولا يقدر الله أن يغير شيئا منه” وهو نسف للمراتب الأربعة التي ذكرناها للإيمان بالقدر؛ ولذلك سموا ( قَدَريَّة) أي ينفون القَدَر.
وبمقابل هؤلاء توجد فرقة ( الجبرية) وهي فرقة تاريخية من فرق المسلمين، وهي تقول عكس ما يقوله المعتزلة تماما، حيث تؤمن بالمراتب الأربعة التي ذكرناها للقدر، لكنها تزيد عليها، أن أفعال البشر هي أفعال الله على الحقيقة، وأن الناس لايفعلون شيئا، فهم أشبه بالعرائس الكرتونية بمسرح العرائس، يحركهم الله رغمًا عنهم، ثم يحاسبهم على ما يأتون رغما عنهم ،فإن الله هو الفاعل الحقيقي بقوته وليس للعبد إلا نسبة الفعل إليه عن طريق المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة ونحو ذلك، فسلبوا عن العبد القدرة والمشيئة التي أخبر الله تعالى عنها، وجعلوا العبد أشبه ما يكون بالجماد المسير من غيره. .[ فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها (1/ 122)]
ويأتي إيمان أهل السنة والجماعة، في المرتبة الوسط، الذي سبق أن بينا معالمه.
الرضا بالقضاء والقدر
الرضا بالقضاء والقدر ليس مرتبة من مراتب الإيمان به، فقد ذكرنا المراتب الأربعة الواجبة، وأما الرضا بالقضاء والقدر، فقد اختلف العلماء في حكمه، هل هو واجب أو مستحب ؟ ومن قال بوجوبه، لم يجعله من مراتب الإيمان، ولكنه واجب عندهم وجوب الواجبات الفقهية لا العَقَدية، كما أن من أوجبه فرق بين القضاء، الذي هو فعل الله، فجعل هذا هو محل الرضا، وبين المقضي الذي فعل الإنسان وكسبه، فلم يجعله محلًّا للوجوب، فمن قُتل ولدُه، عليه أن يرضى بقضاء الله وتقديره بإماتة ولده، لكن ليس عليه أن يرضى عن فعل القاتل [الفروق، القرافي(4/ 250)]
يقول ابن القيم :
تنازع الناس في حكم الرضا بالقضاء، هل هو واجب أو مستحب على قولين، وهما وجهان لأصحاب أحمد، فمنهم من أوجبه .
ومنهم من قال: هو مستحب غير واجب؛ فإن الإيجاب يستلزم دليلا شرعيا، ولا دليل يدل على الوجوب، وهذا القول أرجح؛ فإن الرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات.[ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 278)]
وأيا ما كان الأمر، فإنه يجب الصبر على القضاء المكروه، وعدم التسخط على الله تعالى، وهذا شيء غير الرضا بالقضاء والقدر.
وعلى هذا ، فإن الإيمان بالقضاء والقدر لا يستلزم الرضا به، ولا يستلزم السكوت عن المنكرات والمظالم والفساد بتُكَأَة أنها قضاء الله وقدره!
وفي تجلية هذا المعنى يقول الدكتور القرضاوي: “رضا الإنسان عن الله، وعن السير العام للكون والحياة. لا يستلزم الرضا عن كل ما يراه على مسرح الحياة من شذوذ وانحراف جزئي مصدره هذا الإنسان المكلف المختار.
إن رضا الإنسان عن السيارات وركوبها، ليس معناه الرضا عما تسببه من حوادث، وما يرتكبه سائقوها من مخالفات لقواعد المرور وآداب الطريق.
لقد رضي المؤمن عن نظام الله في الكون. ومن هذا النظام ما منح الله من عقل واختيار للإنسان على أساسهما يتحمل المسئولية، ويكون أهلاً للزجر والثورة عليه، وتأديبه وتقويمه.
فالمؤمن راض عن نظام الوجود، ساخط على انحراف الإنسان الذي لم يقم بشكر الله على نعمة العقل والإرادة التي منحها. بل سخر نعمة الله في غير ما خلقت له.
وهذا السخط على الشذوذ والانحراف البشري سخط يرضاه الله، بل يأمر به، ويتوعد المهدرين له، والساكتين عنه، بالعذاب الشديد (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) (هود: 116) (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داوود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون) (المائدة: 78، 79).” [الإيمان والحياة، القرضاوي، ص 154].
إسلام أون لاين
عبد الرؤوف- عضو جديد
- تاريخ التسجيل : 22/08/2018المساهمات : 226نقاط التميز : 439
رد: القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
شكر جزيلا للطرح القيم
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
تحيتي وتقديري لك
وددي قبل ردي .....!!
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
تحيتي وتقديري لك
وددي قبل ردي .....!!
MED - BOX HD- مدير ستار ديس
- تاريخ التسجيل : 20/08/2018المساهمات : 1156نقاط التميز : 1969
رد: القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
مشكور على الموضوع
سلمت يداك
بارك الله فيك
واصل ابداعك
سلمت يداك
بارك الله فيك
واصل ابداعك
هلال- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 23/08/2018المساهمات : 259نقاط التميز : 260
رد: القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
شكرا على الموضوع الرائعع
دمت فخرا للمنتدى
التوقيع
_________________
جودي- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 25/08/2018المساهمات : 321نقاط التميز : 353الجنس :العمر : 22الأبراج :
رد: القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
شكرا على الموضوع القيم
فؤاد- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 19/09/2018المساهمات : 282نقاط التميز : 282العمر : 24الأبراج :
رد: القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
شكر جزيلا للطرح القيم
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
ننتظر المزيد من ابداع مواضيعك الرائعه
شيكاغو- عضو نشيط
- تاريخ التسجيل : 25/09/2018المساهمات : 336نقاط التميز : 336الجنس :العمر : 22الأبراج :
رد: القدْرُ الواجبُ في الإيمان بالقضاء والقدَر
بصراحــه رائع جدا هذا الموضوع
بصراحه انت تمتلك ذوق راقي في جـلب ماهو مميّز وجميل
دائما كلماتك ترتدي ثوب التميز والابداع الثقيلان
صح أحساسك ولسانك ودام توهجك
التوقيع
_________________
منتدى احلى تومبلايت
مواضيع مماثلة
» قصة عن الرضا بالقضاء و القدر
» الثمرات النفسية للإيمان بالقضاء والقدر
» ثلاث من الإيمان
» الإيمان بالكتب السماوية
» الصبر نصف الإيمان
» الثمرات النفسية للإيمان بالقضاء والقدر
» ثلاث من الإيمان
» الإيمان بالكتب السماوية
» الصبر نصف الإيمان
سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع
لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى