لماذا يداول الله الأيام بين الناس؟

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

لماذا يداول الله الأيام بين الناس؟

مُساهمة من طرف نجمة الكون الثلاثاء ديسمبر 31, 2019 9:38 am


لماذا يداول الله الأيام بين الناس؟

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا، وصلاة وسلامًا على سيد المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

وبعد:

فيذهب عصرُ ظالِم، ويأتي عصرٌ أشد ظلمًا، ثم عصر وسط، ثم عصر عادل، وهكذا يداول الله الأيام بين الناس، فلا يكون هناك مظلوم طوالَ الوقت، ولا ظالِمٌ باقيًا للأبد، بل يُعطِي الله - عز وجل - المُلْك والسلطان لهذا وذاك؛ ليَرَى عملهم في الناس، ثم يُنهِي ربنا هذا العصر أو ذاك، ويستبدل به آخر؛ فـ ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29] سبحانه، فلا تستقر الدنيا على حال واحد.. أحيانًا تكون دولة نبوَّة.. وأحيانًا خلافة راشدة.. وأحيانًا ملكًا عضوضًا.

كما في الحديث المرويِّ عن معاذ بن جبل - وفي إسناده ضعف يسير -:

((إن الله بدأ هذا الأمرَ نبوةً ورحمةً، وكائنًا خلافةً ورحمة، وكائنًا ملكًا عضوضًا، وكائنًا عنوةً وجبريةً، وفسادًا في الأمة، يستحلُّون الفروجَ والخمور والحرير، وينصرون على ذلك، ويُرزَقون أبدًا حتى يلقوا الله - عز وجل))؛ مسند الطيالسي.

وله شاهد عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((تكون فيكم النبوَّة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله - تبارك وتعالى - إذا شاء أن يَرفَعها، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عضوضًا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون ملكًا جبريةً، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة))؛ رواه أحمد، وإسناده حسن.

وهكذا.. بين الناس تتداول السلطة والحكم والرئاسة.. ويبقى السؤال: لماذا لا يجعل الله - عز وجل - الحق ظاهرًا أبدًا؟ لماذا هذه الدائرة وهذه المراحل في حياة الدول؟

والجواب في آيات آل عمران: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 140 - 142].

♦ فالله - عز وجل - يريد دائمًا أن يمحِّص ويختبر المؤمنين؛ ليكفِّر عنهم ذنوبهم بصبرهم على البلاء في عهد الدول الظالمة والحكَّام الظالمين، ويرى صبرهم وثباتهم على الحق، فإذا مكَّنهم - سبحانه - كما ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، وقال الله - جل جلاله -: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].

أحب أن يرى منهم الإيمان، والعمل الصالح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بعد أن كان الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف هو السائدَ من الأمراء الظالمين؛ لذلك خصَّه بالذكر - سبحانه - مع الصلاة والزكاة، وكأن الطغاة دائمًا يَهدِمون هذه الثلاثة - الصلاة، وجباية الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - أو بعضها، ويدلُّ على ذلك أيضًا قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه ستكون عليكم أمراء، يؤخِّرون الصلاة عن ميقاتها، ويخنقونها إلى شَرَقِ الموتى، فإذا رأيتُموهم قد فعلوا ذلك، فصلُّوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتَكم معهم سُبْحةً))؛ رواه مسلم، وقوله: ((سبحة))؛ أي: نافلة، و((شرق الموتى)): من قولهم: شرق الميت بريقه إذا لم يبقَ بعده إلا يسيرًا ثم يموت.

فالله - عز وجل - حين يمكن للمؤمن بعد الظالم يحب - سبحانه - أن يرى منه التوحيد وكل ألوان الطاعة، فإذا غلب حبُّ الكرسي والسلطان والمال على الممكَّن، وفرَّط في العبادة والتوحيد، وهي الأمور المطلوب إثباتها بعد التمكين، فقد كفر بنعمة ربِّه، وتحول من الإيمان إلى الفسق، فسبحان مقلِّب القلوب! وبهذا ختم الله الآية: ﴿ ... وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، وختمها في الأخرى: ﴿ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]؛ يعني: هو الذي يملك ناصية كل أمر، فلا تغترَّ أن الله مكَّن لك في الأرض، أنه لا يقدر على أن يسلب منك مُلْكَك - سبحانه - فالخلق خلقه والملك ملكه يفعل فيه ما يشاء.

فهذا من حكمة الله في خلقه أن يستضعف المؤمِن فيبتلي إيمانه حال هذا الاستضعاف ليرى كيف يصنع فيه؟ وهو ابتلاء بالسلب، ثم يُبتَلى بالتمكين في كل شيء، وهذا يحدث في واقع الأفراد والدول، تجد المؤمن فقيرًا ليس صاحب مال ولا جاه فيبتلى، ثم يسوق الله له السلطان ويرزقه المال فيُبْتَلى؛ ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].

فكلاهما فتنة، والناجي فيهما من عمل في كل حال بما أمره الله من الصبر والطاعة.

♦ كذلك يداول الله السلطة والحكم في الناس، ليَجبُر قلب المؤمن، ويكسر قلب الكافر، فيزداد المؤمن إيمانًا، ويعلم الكافر أن الملك الحقَّ للهِ - عز وجل - ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]؛ فيرده إليه ردًّا جميلاً، أو تكون عليه حُجَّة فيزداد كفرًا وتقام عليه الحجة؛ ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 6]؛ فالله - عز وجل - يمدُّ الظالِم في فترة حكمِه بألوان النِّعم والعطايا؛ ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]؛ فتلمع أبصار الذين لا يؤمنون، فلا يرون أن هذا إمهال واستدراج من ربهم له؛ ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 79 - 80]، حتى هذا زاد كفره وطغى، وأبَى أن يخضع لربه، فأخذه - سبحانه – بَغْتَة؛ ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص:81 - 82].

وكما جاء في الحديث الصحيح - كما عند البخاري - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليُمْلِي للظالِم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه))، قال: ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].

♦ وكذلك يداول الله الأيام بين الناس؛ ليكون هناك شهداء في سبيل الله، بالجهاد بالكلمة، أو بالسيف، أو بالمال، كلٌّ بحسبه، وفيما يقتضيه الوقت والحال لهذه الأمور الثلاثة، فتكون كرامة للمؤمن في الآخرة، وأجرًا عظيمًا، قال ابن كثير: ﴿ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران: 140]؛ يعني: يقتلون في سبيله، ويبذلون مُهَجهم في مرضاته"؛ انتهى.

♦ ومن حكمته في ذلك أيضًا أن تكون العاقبة دائمًا للمتقين والمستضعفين؛ ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 5]، حتى في عصور الظلم، فالعاقبة للمتقين حتى لو لم يَرَوا التمكين بأعينِهم؛ فأعمار الناس ليستْ كأعمار الدول، فتكون عاقبة آخرتهم هي حسنَ الخاتمة والجنة ورضا الرحمن؛ ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]؛ فالعاقبة قد تكون في الدنيا، أو في الآخرة، أو في كليهما.

قال ابن كثير في قوله - تعالى -: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]؛ أي : وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وهي الجنة، لمن اتقى الله.

وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:) (رأيتُ الليلةَ كأنَّا في دار عُقْبَة بن رافع، فَأُتِينَا برُطَب من رُطَب ابن طابٍ، فأوَّلتْ أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب))؛ قلت: هو في صحيح مسلم.

♦ كذلك من الحكمة في ذلك، أن يرى الناسُ الباطلَ ضخمًا، وله هالةٌ عظيمة ولون جميل يستره، فيُفتَنون به، وهو في الحقيقة شرٌّ لمن في الأرض، فإذا انكسر الباطل وزهق، وذهب الزبد، ورغوة الشر - بان للناس ما ينفعهم حقًّا، وعَلِموا أن ما كانوا يظنون أنه لن يظهر أبدًا من قوة هذه الأضواء وعلوِّ الرغوة، هو في الحقيقة الذي ينفعهم ويصلحهم؛ ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17]؛ فالحق باقٍ وإن طال غيابه عن نظر الناس وعدم اقتناعهم به، والباطل يذهب جُفَاءً، وإن ارتفع وظهر على غير حقيقته، وهذا من أجل حكم الله - سبحانه - في ذلك، فالحقُّ لا يظهر جليًّا واضحًا إلا بعد ظهور نقيضه ثم ذهابه.

فالعلو للباطل صوري لا وزن له، ودائمًا كلمة الحق هي العليا؛ ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

♦ وليمحق الله الكافرين، وهذا النتيجة السلبية للتمكين، محق الكافرين، فيهلكوا ويفنوا ويذلوا، فإن تابوا وإلا أُدخِلوا نار الجحيم.

♦ ومن ذلك أن يدفع الله الناسَ بعضَهم ببعض؛ ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].

روي في معنى الدفع معنيان متلازمان؛ رُوِي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في هذه الآية، ومجاهد، وغيرهما - كما عند البيهقي في الشُّعب -: "يدفع الله بمَن يصلي عمَّن لا يُصلِّي، وبمن يحج عمَّن لا يحج، وبمن يزكِّي عمن لا يزكي"؛ قلت (البيهقي): وهذا يكون إلى ما شاء الله، وقد يدعهم فيهلكوا جميعًا إذا كثر الفساد، ثم يبعثهم الله على نياتهم"، انتهى؛ والمعنى أن الله يدفع بالصالحين من عباده البلاءَ عن أهل المعصية، فإذا قلَّ الصالحون وكَثُر الخبث، هلكوا جميعًا، ثم يبعثون على نياتهم؛ فعن زينب زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "قلت: يا رسول الله، أَنَهْلِك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث))؛ أخرجاه.

والثاني وهو حسي - كما قال الطبري في تفسير الآية -: "﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ﴾ - وهم أهلُ الطاعة له والإيمان به – ﴿ بِبَعْضٍ ﴾ - وهم أهل المعصية لله والشرك به - كما دفع عن المتخلِّفين عن طالوتَ يوم جالوتَ من أهل الكفر بالله والمعصية له، وقد أعطاهم ما سألوا ربَّهم ابتداءً من بعثة مَلِك عليهم ليُجَاهِدوا معه في سبيله بمَن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر، جالوت وجنوده، ﴿ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾؛ يعني: لهَلَك أهلُها بعقوبة الله إيَّاهم، ففسدتْ بذلك الأرض، ولكن الله ذو منٍّ على خلقه، وتطول عليهم بدفعه بالبَرِّ من خلقه عن الفاجرِ، وبالمطيع عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر" انتهى.

فهذا الدفع - بنوعيه - لازم لتستمر الحياة على الأرض، وتستمر الطاعة كما يريدها ربنا - عز وجل - منا، ولذلك كانت الفتن والابتلاءات في حياة الناس؛ إذ الحياة لو استمرَّت رتيبةً على نهجٍ واحد لا يتغيَّر؛ كالعدل مثلاً، لملَّ الناس وسئموا الطاعة والعبادة؛ لذلك لن يكون هناك "يوتوبيا" أبدًا، كما يصوِّر الفلاسفة؛ فالنفس تميل إلى المعصية والذنب، وتنفر حتى من الحق، فالحق يكون ثقيلاً على النفوس ولا يقوى على تحمله إلا مؤمن؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 5]؛ فسمَّى الله الحق - وهو القرآن وأحكامه - قولاً ثقيلاً، وقال الحسن وقتادة: "هو العمل به"؛ لذلك يفتن الله الناس بعضهم ببعض، ويدفع بعضهم ببعض، لذلك يفتن الله الناس بعضهم ببعض ويدفع بعضهم ببعض، فالبعض يصرُّ على معصيته وظلمه، ويفزع البعض الآخر دائمًا إلى ربهم بالعبادة والتوكل والإيمان، وذكره - عز وجل -: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50].

♦ وهذه هي أشرف الحِكَم على الإطلاق من دولة الأيام بين الناس، أن تعجَّ الأرض دائمًا وأبدًا بذكر ربها على اختلاف الألسنة والألوان والأشكال، بكل أنواع الطاعات والعبادات، فصوتٌ في السجن يدعو ربه أن ينصره ويذلَّ عدوه، ونداءٌ في السَّحر من رجلٍ عادي يتقرَّب إلى ربه بعمل صالح نفع به الناس، وهؤلاء يجاهدون بسيوفهم وآيات ربهم في سبيل الله، وآخرون يؤدُّون مناسك الحج والعمرة في أمان وخشوع، وهذا يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذه تدعو لرجل تصدَّق عليها، وأخرى تسأل ربها الرزق الحسن، والعمل الصالح، وهؤلاء يصلُّون الجماعات، ويدعون ربهم أن ينجِّيهم من الفتن.. إلى آخره من الدعوات والعبادات التي تكون في أحوال الرخاء والشدة؛ فتجد الأرض تموجُ بذكر الله، ويعلو صوت الإيمان في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، وتجد هؤلاء يحاربون من أجل تطبيق شرع ربهم، وآخرون يبنون بيوتًا للهِ في بلادٍ لم تعرف الإسلام بعدُ، ويجتهد العلماء في تفسير آيات ربهم وإنزالها على الواقع، ويجتهدوا أكثر في دعوة الناس بكلِّ ما يتيسَّر لديهم من وسائل مباحة تناسب المكان والزمان؛ سعيًا لتحقيق وإعلاء كلمة التوحيد بصفائها وجمالها ونقائها، فسبحان ربي مُجري الأقدار بحكمة واقتدار! لا يَخفَى عليه شيء في أعلى السموات ولا في أعماق البحار، سجد له الطير، والجماد، والحيوان، والأشجار، يُمهِل ولا يُهمِل، رحيمٌ بخلقه عليهم قهار، لا إله إلا هو سبحانه العزيز الغفار!

فهذه بعض حكم هذا التداول للأيام بين الناس، ومَن تأمل وجد أكثر، والأمر أوسع مما ذكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم


نجمة الكون
نجمة الكون
عضو ستارديس

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 1437
نقاط التميز : 2154
الجنس : انثى
العمر : 30
الأبراج : العذراء

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: لماذا يداول الله الأيام بين الناس؟

مُساهمة من طرف القلب النابض الثلاثاء ديسمبر 31, 2019 4:54 pm


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بـارك الله فيك على الموضـوع القيـم والطـرح الممـــيز
بـــالــتـــوفيق ان شـــــاء الله و ننتظر جديــدك

القلب النابض
القلب النابض
مشرف الهواتف والفضائيات

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 1634
نقاط التميز : 3364
الجنس : ذكر
العمر : 26
الأبراج : الجوزاء

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: لماذا يداول الله الأيام بين الناس؟

مُساهمة من طرف شموخ القوافي الثلاثاء ديسمبر 31, 2019 10:15 pm


شكرا لك على
هذه المشاركة الرائعة

شموخ القوافي
شموخ القوافي
عضو ستارديس

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 1461
نقاط التميز : 1687
الجنس : ذكر
العمر : 32
الأبراج : الثور

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: لماذا يداول الله الأيام بين الناس؟

مُساهمة من طرف IKRaMOne الأربعاء يناير 01, 2020 9:13 am


لك كل الشكر والتقدير على مجهودك الرائع والمميز
بارك الله فيك على الموضوع القيم والمميز
نتمنى لك كل التوفيق والاستمرار والاستفادة
من مواضيعك المميزة

IKRaMOne
IKRaMOne
عضو ستارديس

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 1290
نقاط التميز : 2098
الجنس : انثى
العمر : 34
الأبراج : الاسد

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع

لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان

سجل معنا الان

انضم الينا جروب تاج فعملية التسجيل سهله جدا ؟


تسجيل عضوية جديدة

سجل دخولك

لديك عضوية هنا ؟ سجل دخولك من هنا .


سجل دخولك

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى