الحكاية الشعبية وثقافة العنف

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

الحكاية الشعبية وثقافة العنف

مُساهمة من طرف Derraz Boujemaa الجمعة ديسمبر 07, 2018 1:38 am


مما لاشك فيه ان الحكاية الشعبية هي فردوس ثقافي صاغه المخيال الجمعي ليؤشر رؤاه ازاء مايحصل وماسيحصل وهذا مايصدق تماما على الحكاية اليمنية الجرجوف التي تستشعر - وانت في حضرة مناخاتها - أنها امتلكت نسقا يخرجها من المحلية الى العالمية وانها حددت ملامح الراهن منذ قرون بلافتاته الملونة والمستوردة والمزركشة بحوار الحضارات تارة وصدامها اخرى، وتفننت في استخدام الامكنة المبهمة واستعانت بالاسماء الوهمية والانوات الخرافية بطريقة تلهب الخيال في مهارة تجعلك ازاء سرد حكائي لم يسحب التلقي الى غواية تتبع ساذج لقصة حب مكرورة او حالة غبطة مرتبطة بفوز البطل الشعبي بطلبته، بل جاء تنامي الحدث محايثا للموضوع ومتسقا مع ايقاعات صيرورة الحكاية لافتة سياسية تستنطق التاريخ الانساني برمته لتضيء ظاهرة العنف الثقافي والجسدي الذي يصل حد الالغاء عبرفضح متقن لفداحات الاستبداد الايديولوجي الذي لاحدود لتداعياته وجزئياته المشتغلة على محق الانسان وهويته الحضارية، تأمل الآتي: (يحكى في قديم الزمان ان هناك فتاة صغيرة معدمة خرجت مع زميلاتها لملء جرارهن بالثمر وقد ورطتها زميلاتها بالصعود الى شجرة (العلب) المكتظة الثمر لهز اغصانها حتى تساقطت حبات الدوم فجمعن ماتساقط من تلك الثمرة وتركنها تصارع قدرها على تلك الشجرة الشائكة، عندما اقترب احد الجراجيف منها وشم رائحتها قال يخاطبها: عرف عرماني باقرطة على ضرسي وسناني واجابته الفتاة: انا واعم جرجوف ساعدني على النزول.. توقف بجانب الشجرة ينظر اليها ويجيبها: ساساعدك على النزول ولكن على شرط فرحت الفتاة بموافقته على مساعدتها فسألته عن شرطه فقال لها وهو يمد نحوها يده اليمنى اقفزي وانا سأتلقفك بيدي واضاف وهو يحرك اصابع يده الواحدة بعد الاخرى مبتدئا بالخنصر اذا وقعت على هذه با اكلك، واذا وقعت على هذه با رجعك، واذا وقعت على الوسطى باتزوجك، واذا وقعت على السبابة با اعتقك، واذا وقعت على الكبيرة با اقتلك، هل انت موافقة؟، لم تفكر بشروطه، فوافقت عليها خوفا من البقاء على الجذع بمفردها ، فقفزت من مكانها لتقع على اصبعه الوسطى فتزوجها.، وعندما وصلت بيته المكون من سبع غرف ادهشها مافي الغرف الست من الاحجار الكريمة والاثاث الفاخر وقد تحول هو الى شاب جميل استمال قلب الفتاة واستهواه، وشرط عليها ان لاترى الغرفة السابعة، فالح عليها الفضول لفتحها، وحين فتحتها وجدتها مكتظة بجثث الادميين وبقايا لحومهم، جماجم مبعثرة، اقدام مقطعة واكتشفت بابا سريا يدخل منه الجرجوف الى هذه الغرفة فامتلكها الذعر حتى اسقمها، فاستدل الجرجوف بهزالها على كشفها لسره فتصور لها في صورة امها لكي يستخرج السر ففشل ثم في صورة اختها ففشل ثم في صورة احدى صديقاتها، فاكتشف الحقيقة، فادى الخوف بالبنت الى الهيام حول البيت والرغبة في الخلاص والهرب، وذات يوم رأت راعيا استغاثت به فلما دنا منها عرفت انه اخوها فاخفته في البيت وعلمت منه ان امها واختها لم يزرنها وانما هي من افاعيل الجرجوف، وعندما رجع الجرجوف شم روائح انسان وبحث عنه حتى وجده، وتبين انه اخو الفتاة ‘ فرجته الاخت ان لايقتله فبين لها فرحه بمقدمه ورحب به وطلب صحبته الى الوادي وهناك ذبحه وعاد بكمية من لحمه، وافهم الاخت انه اشترى لحما وان الاخ قد سافر الى قريته لانه لايطيق وداعها، غير ان البنت قد علمت بالحادث عن طريق الحدأة التي حملت اصبع الاخ وخاتمه فكتمت البنت وطبخت اللحم واكلت مع الجرجوف، الاانها كانت ترمي اللحم الى وراء ظهرها، وعندما فرغت دفنت قطع اللحم والاصبع في بستان الدار، فنبتت شجرة دبا اسرعت في النمو فاثمرت ظرفا كالبطيخة الكبيرة، وعندما اينع خرج منها اخوها في شكل وليد، واقنعت الجرجوف انه وليدها منه، وعندما كبر علمته بطباع الجرجوف مايجهل فقالت له: {الجرجوف لايؤثر فيه أي سلاح، ولايقتله أي سيف، الاسيفه المعلق على رأسه حيث ينام، فاذا ضرب به ضربة واحدة مهما كانت صغيرة ففيها نهايته، وعليك ان لاتخف منه لاتصدق قوله ولاتمتثل لامره بان تضربه ضربة ثانية او تخطوه او تبصق عليه، لان في ذلك شفاؤه من جروحه وسرعان ما تلتئم ويعود الى قوته الاولى يأكل من يحاول قتله.. واما متى تقتله واين ففي غرفة نومه وحين ينام.. ولكن اذا رأيت عيونه مفتوحة فتأكد انه نائم لايحس بأي حركة، واذا رأيت عيونه مغمضة فتأكد انه مستيقظ يتابع كل حركة.. فكن حذرا من القيام باي حركة قبل ان اشير لك.. عندما عاد الجرجوف الى بيته اتجه لينام، جلست الفتاة قبالته تراقبه حتى تأكدت من نومه فاشارت لاخيها الذي خرج بحذر وتناول سيف الجرجوف المعلق وسله لضربه في عنقه.. صاح الجرجوف صيحة سمرت الولد وخاف من انتقامه الا ان اخته شجعته مؤكدة موته اذا تركه وشأنه ، ولم يستجب لطلباته .. بقي الجرجوف يتخبط حتى لفظ انفاسه ومات، فرحت الفتاه واخوها وتعانقا يهنئان بعضهما، وعادا الى قريتهم حاملين ما قدروا على حمله من الكنوز والذخائر، وعاشا مع امهم عيشة هناء وسعادة .

من الضروري ان تتسلح القراءة التأويلية لمنطوق حكاية الجرجوف بالايديولوجي والثقافي لفهم الاليات المتحكمة في العقل الانساني الذي هو بالضرورة ابن بيئته وابن رؤاه وتطلعاته فلايمكن النظر للجرجوف بوصفه الجسد الذكوري الذي مارس على الانوثة اغتصابا جسديا منتزعا اياها من انتمائها بوصفها الثمرة الغضة والشهية اولم تسقط اليه من ( الشجرة )؟!! وانما يجب النظر اليه على انه السلطة الاستبدادية بمختلف مسمياتها، وقد مارس على البطلة استلابا ثقافيا بشروطه الخمسة التي كانت اشبه ماتكون بالقبضة التي تسددها ثقافة العنف ومنطق القوة بوجه الذات التي غامرت واعتلت شجرة المعرفة وقد اثمرت عن رحلة مريرة بدأت بالاندغام القهري بين السيد والمسود بل ان الشرط السادس قد عكس انفصالا ثقافيا وحضاريا بين البطلين المنتميين الى حضارتين مختلفتين فالبطلة لم تقبل الطرف الاخر بخصوصياته (الغرفة السابعة) والجرجوف رفضها بخصوصياتها وانتمائها (قتل الاخ واكل لحمه) لتكون الحكاية برمتها صورة اولى لصدام الحضارات وان بدأت بالحوار بين حضارتين (استغاثت .. فقال لها ... قالت له) نستشعر من خلاله تركيز الحضارة الغاشمة المرموز لها بالجرجوف على آلية اسقاط الحضارة الغضة (اذا سقطت+ اذا سقطت + اذا سقطت + اذا سقطت + اذا سقطت) ليصبح فيما بعد تعايشا مفخخا يتقد على صراع طويل الامد ينتهي بانتصار الانوثة الرامزة للسلام والهوية على البربرية وثقافة الدم اضف الى ذلك ان التنامي الدرامي للحدث يؤشرطبقية حادة بين بطليها تنجح في ان تستبطن مستتويين للحركة الاول يعكس هموم الطبقة المسحوقة وتوقها الى الانفلات من قبضة المارد الايديولوجي والثقافي (الجرجوف) وهي حركة تعكس بدقة تفاصيل الصراع الطبقي المتمظهرة في حركة (الاخ والاخت لقتل الجرجوف والعودة بالكنوز) لنكون ازاء تمرد مبرمج لهتك حصون امبراطورية الخوف وتحرير الفكر المرموز له بـ(الكنوز) واستعادته من القوى الغاشمة التي امتلكته فصار جزءا من ملكيتها الخاصة. ويتجلى المستوى الثاني في حركة الجرجوف لاحكام سلطته على البطلة عبر ادواته التي تحيل تارة الى براعة الجهاز الاستخباراتي في الكشف عن الحقائق {تحول امها واختها وصديقتها+ اذا رأيت عيونه مفتوحة فتأكد انه نائم لايحس بأي حركة، واذا رأيت عيونه مغمضة فتأكد انه مستيقظ يتابع كل حركة « وتارة اخرى الى الجهاز القمعي{ قتل الاخ » وثالثة عبر حركته باتجاه مسخ هوية البطلة وسلخها عن انتمائها «اقناعها باكل لحم اخيها» ومن هذا المنطلق فلايمكن النظر الى بيت الجرجوف وحركة السرد الحكائي نحوه ليكون مسرحا للحدث لايمكن النظر اليه على انه انتقال حضاري من الزراعة الى المدينة فقط وانما على اساس ايديولوجي يؤشر البنية المؤسساتية السياسية بكل دهاليزها ولافتاتها الاعلامية البراقة (غرف واسعة واثاث فاخر+ مليئة بالاحجار الكريمة) بل ان الرقم سبعة نجح في ان يضيء الحق الالهي للقوة الغاشمة المرموز لها بالجرجوف في امتلاك ناصية هذه المؤسسة التي تكورت على الغرفة السابعة (المقدسة/المدنسة) المكتظة (.....باشلاء وبقايا بشر) لنكون ازاء غرفة صناعة القرار في امبراطورية الظلم القائمة على التصفية الجسدية والغاء ثقافة الاخر ليكون هزال الانثى التي مارست لعبة الفضول المحرم حين دخلت الغرفة السابعة هزالا ترميزيا يؤشر يقظة الضمير ورسالة تأتي من قلب معسكر القوة الغاشمة تقود الى البحث عن المخلص والمنقذ الذي يوقد حضوره اكثر من مستوى ترميزي تجعل من النص مرايا تعكس تمثل الذاكرة الجمعية للمشروع الفلسفي والفكري الانساني الموصول باكثر من بنية حضارية فثمة الحضارة الاسلامية المتمظهرة في المكبوت الدلالي للحكاية وعبر انزياحات متقنة لثلاث انوات هي فرعون وموسى واسيا وقد تماهت بشيء من الانخطاف الترميزي مع الجرجوف والاخ المخلص والاخت بل ان استدعاء المتن الحكائي فضاءات الاية المباركة (وبشر القاتل بالقتل) يجعلك ازاء ثقافتين هما ثقافة القاتل (اصابع الجرجوف الخمس) الرامزة لشراسة الاداء الغاشم واقتداره في مقابل ثقافة القتيل (اصبع الاخ القتيل وحرزه الشعبي «الخاتم» الذي حملته الحدأة ودفنته الاخت) لتعكس اداة فعل مقموعة ومغتالة الا ان المخيال الحكائي يقلب هذه المعادلة المغلوطة حين يعيد صياغتها فيمنح ثقافة القتيل قوة لدحر ثقافة القاتل وقدرة على ان تؤتي ثمارها يانعة مكتملة اوليس الاخ هو ثمرة من ثمار الصبر!؟، لتكون الحكاية بمناخاتها صرخة في وجه الاستبداد الثقافي والانساني واشارة وامضة تمنح افق التلقي خارج النص انتعاشا باعادة الامور الى نصابها الصحيح ولو بعد حين بل قل ولو داخل النص حتى !!.، وثمة تواصل مع الحضارة الاغريقية حين اعاد المخيال الشعبي انتاج حصان طروادة من خلال ثمرة الدبا التي اخفت المخلص والمنقذ ليدك حصون الظلم ويطيح بالحاكم الغاشم الباحث عن أية ذريعة لتمديد حكمه ومنها اقتناع الجرجوف غير المنطقي بانتساب الوليد اليه ليشي بميكافيلية المستبدين.

وثمة حضور للحضارة البابلية حيث يتماهى وجه تموز بوجه الاخ الراعي المغدور ومن ثم عودته ليغدق على الارض اخضرار العدل وربيع السلام، وثمة استدعاء للحضارة العباسية وترجمانها الخالد (حكايات الف ليلة وليلة ) وتحديدا حكاية الشاطر حسن اذ شكل الرباعي السردي (القصر والعفريت والانثى المختطفة (بدر البدور) والمنقذ (الشاطر حسن) توازيا ايحائيا بين الجرجوف والبطلة والاخ المنقذ والبيت.

وثمة اشتغال على الفضاء الاسطوري المستجلب من انسنة الشجرة ومنحها جسدا انثويا يغدق على مناخ الحكاية ولادتين تمظهرت الاولى في انفلات الانثى (بطلة الحكاية) من قبضة الحرمان حين اعتلت شجرة المعرفة وانبثقت الاخرى من ميلاد الاخ من رحم الشجرة التي شكلت بخضرتها قلادة خضراء اطرت احداث الحكاية ومنحتها من عنفوانها وديموتها خلودا مضافا الى خلودها المنبعث من قدرتها على التفاعل مع الحدث الحاضر والفاعل في حياتنا الراهنة .

وخلاصة القول : فان حكاية الجرجوف نجحت في ان تتفاعل مع الحدث الحاضر في راهننا المعاش لتكشف عن العلة الاساسية في تصدع امبراطورية الخوف على مر التاريخ الانساني وكيف ان القتل ومصادرة ثقافة الاخر هما الدعامتان الاساسيتان لانهيار الدول والامبراطوريات اوليس الجرجوف هو وجه من هذه الوجوه ؟!!

Derraz Boujemaa
Derraz Boujemaa
مؤسس ستار ديس

تاريخ التسجيل : 20/08/2018
المساهمات : 5189
نقاط التميز : 9415
الجنس : ذكر

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: الحكاية الشعبية وثقافة العنف

مُساهمة من طرف New Post الأحد ديسمبر 09, 2018 2:12 am


السلام عليكم ورحمة الله
موضوع رائع ومعلومات قيمة
شكرا لك ووفقك الله

New Post
New Post
مديرة ستار ديس

تاريخ التسجيل : 24/08/2018
المساهمات : 4133
نقاط التميز : 6472
الجنس : انثى
العمر : 24
الأبراج : الميزان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع

لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان

سجل معنا الان

انضم الينا جروب تاج فعملية التسجيل سهله جدا ؟


تسجيل عضوية جديدة

سجل دخولك

لديك عضوية هنا ؟ سجل دخولك من هنا .


سجل دخولك

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى