معركة باب الشزري أو رونسفال

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

معركة باب الشزري أو رونسفال

مُساهمة من طرف Nabil LacRiM الثلاثاء سبتمبر 11, 2018 6:26 pm


التوسع الإسلامي في أوروبا

لم يقف الفاتحون المسلمون لبلاد الأندلس عند حدود جبال البرنيه -البرانس الآن- والتي تفصل أسبانيا عن فرنسا وقلب أوروبا، بل اندفعوا يحملون رايات التوحيد، ولم يمض سوى عشرين عاما على فتح الأندلس حتى استطاع المسلمون أن يجتاحوا ولايات فرنسا الجنوبية، وأن يبسطوا سلطان الإسلام على سهول "الرون"، ويتوغلوا إلى قلب أوروبا، حتى وقعت الموقعة الكبرى والتي كانت النقطة الفارقة في حياة أوروبا والنصرانية بأسرها: وهي معركة بلاط الشهداء سنة 114هـ على ضفاف نهر "اللوار"، والتي انهزم فيها المسلمون لأسباب معروفة ترجع في جملتها لحب الدنيا وتفرق الكلمة، ولكن المهم أن هذه المعركة أحدثت فورة وانتعاشة صليبية في قلوب الأوروبين، بعدما كادت أوروبا كلها تقع بيد المسلمون العرب، وهذه الفورة والحمية جعلت الأوروبين يفكرون في وضع حد نهائي للخطر الإسلامي الذي يهدد فرنسا وأوروبا من ناحية جبال "البرنيه" أو "البرانس".

الروح الصليبية ضد مسلمي الأندلس

كان الأوربيون يعلمون جيدا أن هزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء لم تمنعهم من مواصلة القتال، وشن الغزوات إلى داخل أوروبا؛ فأخذوا في الإعداد لمواجهة هذا العدوان المتوقع من جانب المسلمين، وكان قائد الصليبين في معركة بلاط الشهداء رجل داهية اسمه "كارل مارتل"؛ فأخذ في التخطيط لتأمين فرنسا من ناحية أسبانيا، وذلك بمحاولة الاستيلاء على المدن الحدودية بين أسبانيا وفرنسا، والواقعة في إقليم "جاليس"، وهو ما نجح فيه الأمير "ببير" ابن القائد :كارل مارتل:، وهذا النجاح رشحه لأن يكون عاهل الدولة الرومانية القديمة، ويرتقي لعرشها الكبير.

واستمر الحال على ما هو عليه حتى جاء الإمبراطور "كارل الأكبر" المشهور في كتب التاريخ باسم "شارلمان"، وهو أشهر القادة الذين نذروا حياتهم لخدمة الصليب ونشر الدين النصراني في ربوع أوروبا، وقد أصبح "شارلمان" إمبراطورا على مملكة الفرنج بأسرها من أقصاها لأدناها بعد وفاة أخيه "كارلومان"، وكان "شارلمان" بجانب مقدرته الحربية الفذة يتمتع بعاطفة دينية قوية، وحمية كبيرة لخدمة الصليب، وشن حروبا ذات طابع صليبي على القبائل السكسونية الوثنية، وأجبرها على اعتناق النصرانية، وكان "شارلمان" في نفس الوقت ينظر لدولة الإسلام في الأندلس بعين التوجس والحذر، ويرى فيها تهديدا وخطرا دينيا وسياسيا معا، بجانب العمل والترقب له ليل نهار انتظارا للفرصة السانحة للانقضاض على دولة الإسلام بالأندلس، وإنهاء الوجود الإسلامي بأوروبا كلها.

تفرق المسلمين وانتشار الخونة

وفي هذه الفترة التي شهدت الفورة والحمية الصليبية، وتجمع الأعداء كلهم تحت راية واحدة وقائد واحد هو محط أنظارهم وملؤ عيونهم وحاميهم المنتظر من سطوة الفاتحين المسلمين، كان المسلمون بالأندلس يعانون من الصراعات الداخلية والفتن العصبية التي دبت بين عنصري الفتح: العرب والبربر من ناحية، وبين قبائل العرب بعضها بعضا من ناحية أخرى، ووقعت الأندلس فريسة حرب أهلية عدة سنين، حتى استطاع عبد الرحمن بن معاوية الملقب بـ "عبد الرحمن الداخل" وصقر قريش، أن يوحد الصفوف، ويعيد الدولة الأموية للأندلس بعدما سقطت في الجزيرة العربية والمشرق.

ولكنه ما لبث أن واجه ظروفا بالغة الصعوبة؛ حيث كانت العصبية القبلية ما زالت مستحوذة على عقول الكثير من زعماء القبائل العربية خاصة من ولاة الأقاليم البعيدة، الذين كانوا يحكمون تلك الأقاليم فيما يشبه الإقطاعيات الخاصة والحكم الذاتي، و شعروا بتقلص نفوذهم بعدما عادت الخلافة الأموية للظهور بالأندلس، وكان على رأس هؤلاء الولاة اثنان هما: سليمان بن يقظان الكلبي الملقب بابن الأعرابي، وكان واليا على برشلونة، والحسين بن يحيى الأنصاري وكان واليا على سرقسطة، ففي سنة 157هـ = 774 م ثار سليمان بن يقظان الكلبي والي برشلونة (أو برشنونة Barcenona) وجيرونة (جيرندة)، والحسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة، وهو من ولد سعد بن عبادة، وتحالفا على قتال عبد الرحمن الداخل وخلعه، وإفشال فكرة توحيد الأندلس وفي نفس الوقت كانت ثورة البربر مشتعلة في جنوبي الأندلس.

وشعر عبد الرحمن الداخل أن الظرف شديد الخطورة فقرر مد ذراعيه إلى الشمال وإلى الجنوب. فأرسل إلى الشمال جيشًا بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي، فهزمه سليمان وأسره وتفرق جيشه (158هـ = 775م)، واستفحل أمر الثورة في الشمال. ولكن زعماء الثورة وعلى رأسهم سليمان بن يقظان لم يطمئنوا إلى ذلك النصر المؤقت لما يعلمونه من عزم عبد الرحمن وبأسه وروعة انتقامه، ففكروا في الاستنصار بملك الفرنج.

الاتفاق بين سليمان بن يقظان وشارلمان

لم تكن حوادث الحرب الأهلية في الأندلس لتخفي عن "شارلمان" المتربص -أصلا- بالإسلام والمسلمين في الأندلس، ووجد فيه "شارلمان" الفرصة السانحة للتدخل وإنهاء الوجود الإسلامي بالأندلس؛ فأخذ في التحضير لحملة صليبية كبيرة على الأندلس، وفي أثناء تجهيزه لهذه الحملة إذا بزعماء الفتنة يأخذهم المطامع والأهواء والعصبية لأبعد مدى يصل إليه مسلم؛ وانحطاط -ليس دينيا وأخلاقيا فقط- بل أيضا إنسانيا حيث صار سليمان بن يقظان الكلبي في نفر من صحبة إلى لقاء "شارلمان" في ربيع سنة 777م (160هـ)؛ وكان يومئذ يقيم بلاطه في مدينة بادربورن من أعمال وستفاليا (شمال غربي ألمانيا)، ويعقد الجمعية الكبرى، حيث كانت جموع السكسونيين المغلوبة تعمّد للنصرانية، بعد أن شتت شارلمان شملهم وفر زعيمهم فيدوكنت.

وعرض سليمان على شارلمان المحالفة على قتال عبد الرحمن، واقترح عليه أن يقوم "شارلمان" بغزو الولايات الأندلسية الشمالية على أن تكون هذه الولايات من نصيب "شارلمان" بعد تنفيذ الاتفاق، وتعهد بمعاونته، وبأن يسلمه المدن التي يحكمها هو وصحبه من قبل أمير قرطبة ولاسيما سرقسطة، وأخيرًا بأن يسلمه أسيره القائد ثعلبة بن عبيد. وأن يكون سليمان وباقي زعماء الثورة الأندلسية خاضعين لملك الفرنج "شارلمان" منضوين تحت حمايته.

"وهكذا نرى كيف يفكر ويعمل الخائن لبلده ودينه: لا يبالي بحرام ولا حرمات، وكيف أن الأطماع والأحقاد قد تدفع صاحبها لأن يخون دينه وبلده، ويرضى بالعدو والمحتل الأجنبي الكافر حاكما ووليا على بلاد الإسلام، وهذه القضية القديمة ما زالت تتكرر وتحدث عبر التاريخ، وآخرها ما حدث بأفغانستان والعراق: من استدعاء أعداء الله ورسوله لحرب الإسلام والمسلمين، كل ذلك من أجل دنيا فانية، ومناصب زائلة، وحكومة باطلة".

لبى ملك الفرنجة دعوة الخونة الثائرين، ووافق فورا على مشروعهم، وهو يضمر في نفسه أنه سوف يأكل الأندلس كلها، ويعيدها تحت حكم الصليب مرة أخرى، ولا يكتفي فقط بالولايات الشمالية كما يظن الخونة المغفلون، ومن أجل ذلك أعد حملة عسكرية كبيرة الحجم قوية التسلح، ولإسباغ الصبغة الصليبية على حملته الضخمة أرسل "شارلمان" برسالة إلي البابا "هادريان" يبلغه فيها بعزمه على محاربة المسلمين وطردهم من الأندلس؛ فشكره البابا على ذلك، ووعده بإقامة الصلوات بكنائس روما ليل نهار حتى يعود ظافرا إلى مملكته، كما وعده بتوفير الدعم الداخلي من نصارى إسبانيا المستعربين الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية بالأندلس.

. وبعث إليه سليمان بأسيره ثعلبة بن عبيد قائد عبد الرحمن، عنوانًا للثقة والتحالف، فسجن في إحدى القلاع الفرنسية. وفي رواية أخرى أنه سلمه إليه عقب مقدمه إلى إسبانيا. وعلى أى حال فقد كان حصول هذا الأسير، وهو من خاصة عبد الرحمن وأكابر وزرائه في يد ملك الفرنج، ضربة لعبد الرحمن، ورهينة قيمة يمكن استغلالها.

اختلاف الخونة

انتظر شارلمان حتى انقضاء الشتاء، وقرر الهجوم في الربيع، وأعد حملته من عدة دول؛ حيث جاءته جنود من انجلترا وألمانيا وإيطاليا واليونان؛ وإضافة إلى جنوده الأصليين من فرنسا، وقسم جيشه الضخم إلى قسمين: قسم يهجم من ناحية الشرق، والآخر من ناحية الغرب على أن يكون اللقاء بين القسمين عند سرقسطة؛ حيث يلتقي "شارلمان" مع زعماء الثورة الخونة، وأثناء سير "شارلمان" اخترق بلاد "البشكنس" -إقليم الباسك الأسبانى الآن أو نافار الحديثة- و أهلها مشهورون باعتزازهم باستقلالهم؛ حيث لم يخضعوا لأحد منذ القدم ولا حتى المسلمين، وظلت بلادهم مستعصية على الغزاة؛ لذلك دخل أهلها في قتال شرس مع "شارلمان" وحاصر عاصمتها بنبلونة، ولكن لم يصمدوا له لضخامة جيشه.

في هذه الفترة كان الحسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة وشريك سليمان بن يقظان في الثورة على عبد الرحمن الداخل يشعر بالحقد والحسد على زميلة في الخيانة والثورة بسبب موقف الصدارة والزعامة الذي اتشح به عند مفاوضة الصليبيين، وبدأ الخلاف يبدأ بينهما ونشبت الخصومة بين الثائرين، وقرر الحسين أن يخرج من هذا الحلف وقام بتحصين مدينته سرقسطة، وبالغ في تقوية دفاعاتها، وكانت هذه المدينة كما هو مخطط سلفا نقطة التجمع والالتقاء بين الفرنجة والثائرين الخونة.

وصلت جيوش "شارلمان" ومعه الثوار بقيادة سليمان بن يقظان إلى مدينة سرقسطة فوجدوها شديدة التحصين، وأهلها بقيادة الحسين بن يحيى في غاية التحوط والاستعداد للدفاع عنها، وحاول"شارلمان"وسليمان فتح المدينة وضربا عليها الحصار بشدة ولكن شدة التحصين والاستماتة في الدفاع وقفا سدا منيعا جيوش الفرنجة وباقي الثائرين، وفي نفس الوقت جاءت الأخبار لـ"شارلمان" من بلاده أن القبائل السكسونية -ألد أعداء"شارلمان"- قد انتهزوا فرصة غيابه وقاموا باجتياح أراضيه فيما وراء الراين، وهنا شعر "شارلمان" أنه لا فائدة من بقائه في الأندلس بعدما فشل في اقتحام سرقسطة، واختلف حلفاؤه من خونة المسلمين، وأعداؤه من خلفه استولوا على أراضيه بفرنسا؛ فقرر الرجوع بسرعة إلى بلاده، ولكنه غضب بشدة من حليفه الخائن سليمان بن يقظان لتخاذله وخداعه له؛ فقبض عليه وأخذه معه إلى بلاده أسيرا، وكان ذلك في شهر شوال سنة 161هـ = يوليو سنة 778م.

"ما أعظم ما في هذه الأحداث من دروس وعبر؛ فإن المسلمين لا يعرفون من أين يأتي النصر؟ وينظرون فقط للأسباب المادية من قوة سلاح وكثرة عدد وضخامة جيوش، ولا ينظرون أو ينسون أن الامر كله بيد الله عز وجل، وأن النصر من عند الله، ويأتي من حيث لا يظن ويحتسب الناس؛ فالله عز وجل سلط عليهم الخلاف والشقاق وحب الزعامة، ليتفرق صفهم، ويذهب ريحهم، وسلط عليهم عدوا من غير المسلمين، ومن حيث لا يعلمون ليشغلوا به عن حرب المسلمين، ثم انظر كيف يكون مصير الخونة والعملاء وما حجم قدرهم؟ فإن قدرهم لا يعدوا عند من باعوا دينهم وأوطانهم من أجل قيد أنملة، وما هم إلا كالحذاء البالي الذي لا يحتاج له ولا فائدة فيه إلا على المزابل، وما أسوأه من مصير وقدر".

معركة باب الشزري ذي القعدة 161هـ

وغادر شارلمان بنبلونة متجهًا إلى جبال البرنيه من طريق هضاب رونسفال Roncesvalles المؤدية إلى باب الشزري. فما الذي حدث عندئذ؟

ارتد "شارلمان" على رأس قواته المجتمعة ومعه أسيره سليمان بن يقظان وغيره من الرهائن، وسار "شارلمان" نحو بلاد البشكنس، وكان أهلها قد اجتمعوا وقرروا التصدي لعدوان "شارلمان"، واعتزموا الدفاع عن بلادهم خصوصا وقد شجعتهم وقفة مدينة سرقسطة وأهلها ضد جحافل شارلمان، وانضم إليهم كثير من المسلمين من أبناء المناطق المجاورة؛ للتعاون في دفع العدو المشترك، ولكن جحافل "شارلمان" هاجمت بكل عنف على عاصمة البشكنس "بنبلونة" ودمرتها بالكلية لمعاقبة البشكنس على تعاونهم مع المسلمين ووقوفهم في وجه شارلمان.

اتجه "شارلمان" بجيوشه بعد ذلك عائدا إلى بلاده عن طريق ممرات جبال البرنيه -البرانس- الكبرى، الفاصلة بين أسبانيا وفرنسا، وهناك حدث ما يجب أن نسطره بأحرف من ذهب وضياء في كتب التاريخ؛ لتعرف الأجيال الحالية واللاحقة ما كان عليه آباؤهم من عزم وقوة إيمان وشجاعة منقطعة النظير، حيث أرسل الأمير عبد الرحمن الداخل فرقة من جيش قرطبة للتعاون مع ولدي سليمان بن يقظان المأسور لدى "شارلمان" في استرداد الأسير رغم خيانته، فقد قام مطروح وعيشون ابنا سليمان بالتعاون مع الحسين الأنصاري وجنود قرطبة، والتخطيط على مؤخرة الجيش الفرنجي، وقام الأمير عبد الرحمن الداخل بعمل ذكي ينم عن عقلية عسكرية شديدة؛ حيث قام بتسليح أهل البشكنس بعدد كبير من السهام والرماح، وأمرهم بالوقوف على قمم الجبال العالية على رؤوس ممرات جبال البرنيه -خاصة الممر الشهير والمعروف باسم "ممر باب الشزري"- والذي سوف يسلكه "شارلمان" بجيوشه الكبيرة. وممر باب شيزروا أو باب الشزري، في طرف البرنيه الغربي شمال شرقي بنبلونة، وعلى قيد عشرين كيلومتر منها.

وبتخطيط من الأمير العبقري عبد الرحمن الداخل وتنفيذ من القوات الإسلامية بقيادة مطروح وعيشون، وبمساعدة من قبائل البشكنس (وفي يوم 5 من ذي القعدة سنة 161هـ = 18 أغسطس سنة 778م) هجمت القوات الإسلامية على مؤخرة الجيش الفرنجي عند مروره بممر باب الشزري كالصاعقة المحرقة المفاجئة، ومن هول المفاجئة أسفر الهجوم عن نتيجة رائعة للمسلمين ومروعة للكافرين؛ حيث لم يستطع الفرنج أن يدافعوا عن أنفسهم في تلك الشعاب الضيقة خاصة وسهام البشكنس ورماحهم تنهال من قمم الممرات، وأسفر الهجوم المفاجئ عن فصل مؤخرة الجيش الفرنجي وانتزعت منها الأسلاب والأمتعة وفي مقدمتها الخزانة الملكية، وكذلك الأسرى وفي مقدمتهم سليمان بن يقظان.

ومزقت المؤخرة نفسها شر ممزق، والتي كان يقودها أمير فرنجي من أخلص أتباع "شارلمان"، وأقرب أصدقائه واسمه "هردولاند" أو "رولان"، وقد قتل هذا الأمير مع جنوده في الهجمة الفجائية على مؤخرة الجيش، وكان مقتله مصيبة كبيرة على الفرنج خاصة "شارلمان".

أنشودة رولان

والجدير بالذكر ان الأدب الفرنسي خلد ذكر "رولان" هذا بأنشودة مكونة من أربعة ألاف بيت عرفت باسم "أنشودة رولان"؛ وهي من أشهر الأناشيد، وتغلب عليها الأساطير والخرافات، وتوضح أيضا كيف يهتم العدو برجاله وأبطاله، ويخلد ذكراهم للأجيال من بعدهم، بل ظلت موقعة باب الشزري مستقى خصبا لكثير من الكتاب والشعراء الفرنج، وكذلك كتاب الملاحم لقرون عديدة.

بيد أن أنشودة رولان تنحرف في كثير من مناحيها إلى الأسطورة. وقد اتخذت الأسطورة من حوادث الموقعة موضوعا لقصة حربية حماسية حرفت فيها الوقائع الأصلية أيما تحريف، ولكنها تستبقي مكان الموقعة، وبعض أشخاص التاريخ. وقد رأينا أن نورد فيما يلي خلاصة هذه القصة أو الأنشودة الشهيرة:

"غزا شارلمان إسبانيا، ولبث يحارب فيها سبعة أعوام، حتى افتتح ثغورها ومدنها، ما عدا سرقسطة، وهي معقل الملك العربي مارسيل. وكان يعسكر بجيشه بجوار قرطبة، حين جاءته رسل مارسيل يعرض عليه الطاعة، بشرط أن يجلو الفرنج عن إسبانيا، فعقد شارلمان مجلسا من البارونات ومنهم رولان ابن أخيه. وكان رولان يرى أن تستمر الحرب، ولكن فريقًا آخر من السادة برآسة جانلون كونت مايانس، كان يرى الصلح والمهادنة، فغلب رأي هذا الفريق، لأن الفرنج سئموا الحرب والقتال، وأرسل جانلون إلى الملك مارسيل ليعقد معه شروط الهدنة. فأغراه مارسيل واستماله بالتحف والذخائر، واتفق معه على الغدر برولان وفريقه. ثم عاد إلى شارلمان وزعم أن مارسيل قبل شروط الفرنج، وبذا قرر شارلمان الإنسحاب. وتولى رولان قيادة المؤخرة. وكان معه الأمراء الإثنا عشر، وزهرة الفروسية الفرنجية. ولما وصل الجيش إلى قمة الممرات الجبلية رأى أوليفر أحد الأمراء، جيشًا من العرب، يبلغ أربعمائة ألف مقاتل.

فتضرع إلى رولان أن ينفخ في بوقه ليدعو شارلمان إلى نجدته، فأبى رولان، وانقض الجيش المهاجم على مؤخرة الفرنج، ونشبت بينهما عدة معارك هائلة. واستمر رولان يأبى طلب النجدة حتى مزق جيشه ولم يبق منه سوى ستين رجلا، وعندئذ نفخ في بوقه يدعو شارلمان: ثم قتل بقية أصحابه، ولم يبق سوى رولان وأوليفر واثنين آخرين. ولما شعر العرب أن شارلمان سيرتد بجيشه لقتالهم، قرروا الانسحاب. وكان زملاء رولان الثلاثة قد قتلوا، وأثخن رولان نفسه جراحا حتى أشرف على الموت. ولكنه استطاع أن ينفخ في بوقه مرة أخرى قبل أن يموت، وأن يسمع صرخة شارلمان الحربية، وسمع شارلمان صوت البوق على بعد مراحل عديدة. فعاد مسرعا وطارد جيش العدو وسحقه. ودفن الفرنج قتلاهم، وعوقب جانلون الخائن أروع عقاب. وتوفيت ألده، خطيبة رولان حينما علمت بموته ".

هذه هي خلاصة القصة التي ترددها أنشودة رولان الشهيرة. وهي أبعد ما يكون عن وقائع التاريخ الحق. بيد أنها تتخذ مادتها من بعض هذه الوقائع، ومن الذكريات والروايات الشفوية المتناقلة، والأناشيد الحربية المعاصرة. وهي نورمانية الأصل، ظهرت لأول مرة في القرن الحادي عشر، أعني بعد الموقعة بنحو ثلاثة قرون، ودونت أولا في بعض القصص اللاتينية، ثم دونت بالنظم في ملحمة طويلة تبلغ أربعة آلاف بيت بعنوان " أنشودة رولان " Chanson de Roland ولبثت تعتبر مدى عصور من أعظم الآثار الأدبية، ومن روائع القريض الحربي.

وكانت حوادث هذه الموقعة الشهيرة مستقى خصبا لكثير من الكتاب والشعراء، وكانت بالأخص مستقى لقصص الفروسية والملاحم الحماسية المغرقة، التي تملأ فراغا كبيرا في الأدب الفرنجي في العصور الوسطى.

لماذا لم ينتقم شارلمان لهزيمته؟

ومما يلفت النظر في حوادث الموقعة أن شارلمان، لم يحاول بعد أن أفاق من الصدمة الأولى، أن يعجل بالانتقام لنكبة جيشه ومقتل فرسانه، وأن يعود فيطارد تلك العصابات التي تحدته واجترأت عليه سواء من المسلمين أو البشكنس.

وتعليل ذلك هو أن شارلمان شغل قبل كل شىء بخطورة الأنباء التي وصلته عن تحرك السكسونين، وهم ألد أعداء الفرنج وأخطرهم، فارتد أدراجه مسرعا ليخوض معهم حربًا جديدة استطالت زهاء سبع سنين، حتى تمت هزيمة زعيمهم فتكنت (أو فيدوكنت) نهائيا، وأرغم على التنصير في سنة 785م. ولم يبق بيد شارلمان، بعد استنقاذ المسلمين للرهائن، سوى ثعلبة بن عبيد قائد عبد الرحمن، وقد لبث فترة أخرى معتقلا بفرنسا، حتى تمت المفاوضة بشأنه، وأطلق سراحه لقاء فدية كبيرة.

وهكذا وقعت الهزيمة المروعة على أكبر وأشهر ملوك الفرنج "شارلمان"، وتمزق جيشه الضخم شر ممزق على يد عصابة مجاهدة من المسلمين الأبطال الذين ظهر معدنهم عند الشدائد، وفشل مشروع "شارلمان" لغزو الأندلس وإنهاء الوجود الإسلامي بها بعد هزيمة مروعة، وفقدان زهرة جنوده، ونكبة عالمية جعلت سمعته في الحضيض، وأيضا حفظت دولة الإسلام الوليدة في الأندلس من خطر الفناء، ووحدت الصف المسلم، وقضت على محاولات الثائرين والخائنين المتكررة.

Nabil LacRiM
Nabil LacRiM
مراقب الكمبيوتر والانترنت

تاريخ التسجيل : 29/08/2018
المساهمات : 2639
نقاط التميز : 4581
الجنس : ذكر
العمر : 28
الأبراج : الدلو

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: معركة باب الشزري أو رونسفال

مُساهمة من طرف professeur الخميس سبتمبر 13, 2018 2:41 am


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الف شكر على المشاركة الرائعة والمميزة

بانتظار القادم الاروع ان شاء الله


professeur
professeur
مراقب المنتدى

تاريخ التسجيل : 31/08/2018
المساهمات : 1825
نقاط التميز : 3849
العمر : 35
الأبراج : العقرب

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: معركة باب الشزري أو رونسفال

مُساهمة من طرف saidmazit الأربعاء سبتمبر 19, 2018 12:58 pm


موضوع رائع
شكرا على الافادة    
دمتم سالميييييييييييييييييييييييييين
سلام




التوقيع

_________________
 معركة باب الشزري أو رونسفال 69688710
 معركة باب الشزري أو رونسفال 65427810
saidmazit
saidmazit
عضو مميز

تاريخ التسجيل : 12/09/2018
المساهمات : 565
نقاط التميز : 688
الجنس : ذكر
العمر : 29
الأبراج : الجوزاء

http://dz-ebda3.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: معركة باب الشزري أو رونسفال

مُساهمة من طرف Princess Soma الإثنين أكتوبر 08, 2018 10:47 pm


بارك الله فيك (ي) علـى المـوضوع الجمـيل والطـرح الممـيز 
أفـدتنا بمـعلومات قـيمة ومفيدة جـزاك الله خـيرا 
نحـن في انتظـار مواضيـعك الجديـدة والرائـعة 
لـك (ي) مـني أجمـل التحـيات ودمـت (ي) فـي أمـان الله وحفـظه 
تحيـاتي الحـارة  Smile Smile 




التوقيع

_________________
 معركة باب الشزري أو رونسفال P_15024n7511
Princess Soma
Princess Soma
عضوية موثوقة

تاريخ التسجيل : 25/08/2018
المساهمات : 1387
نقاط التميز : 2230
الجنس : انثى
العمر : 26
الأبراج : الجدي

http://l7nal7yah.ahlamontada.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

رد: معركة باب الشزري أو رونسفال

مُساهمة من طرف AsHeK EgYpT الأحد أكتوبر 28, 2018 12:44 pm


بصراحــه رائع جدا هذا الموضوع
بصراحه انت تمتلك ذوق راقي في جـلب ماهو مميّز وجميل
دائما كلماتك ترتدي ثوب التميز والابداع الثقيلان
صح أحساسك ولسانك ودام توهجك




التوقيع

_________________

منتدى احلى تومبلايت

AsHeK EgYpT
AsHeK EgYpT
نجم ستارديس

تاريخ التسجيل : 21/08/2018
المساهمات : 3088
نقاط التميز : 3588
الجنس : ذكر
العمر : 27
الأبراج : الميزان

https://ahlawarsh.yoo7.com/

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

سجل دخولك لتستطيع الرد بالموضوع

لابد تكون لديك عضوية لتستطيع الرد سجل الان

سجل معنا الان

انضم الينا جروب تاج فعملية التسجيل سهله جدا ؟


تسجيل عضوية جديدة

سجل دخولك

لديك عضوية هنا ؟ سجل دخولك من هنا .


سجل دخولك

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى